فاروق يوسف
فيما كانت التوقّعات تتجه إلى تهدئة غامضة قد تسمح لرئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بأن يظهر كما لو أنه حسم الصراع مع الميليشيات المتمردة لمصلحته، جاءت الذكرى الأولى لمصرع زعيم فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني لتزيد الأمور التباساً وتضع الكاظمي في موقف محرج.
كان موقفه قوياً حتى في مواجهة النظام الإيراني الذي بدا كما لو أنه استضعف في مواجهة موقف أميركي متشدد جاء نتيجة لقصف قامت به إحدى الميليشيات في اتجاه المنطقة الخضراء التي تقع فيها السفارة الأميركية.
يومها دانت إيران عملية القصف ولاذت قيادة الحشد الشعبي بالصمت، في موقف عُدّ كما لو أنه إعلان براءة من العملية التي قيل إنها من عمل أفراد لا يمتّون بصلة إلى الميليشيات المنضوية في إطار الحشد. كما أن الميليشيات التي كانت قد رفعت في وقت سابق شعار مقاومة الوجود العسكري الأميركي في العراق سعت، من جانبها، إلى التملّص من تداعيات ما جرى.
غير أن الأمور انقلبت فجأة رأساً على عقب. لقد سار كل شيء بعكس ما كان رئيس الحكومة يأمله بعد عودة الوفد الذي أرسله إلى طهران. لقد بدا واضحاً أن إيران دعت إلى تصعيد عسكري في العراق في مقابل موقف التهدئة الذي تبنّته رسمياً، بحيث صارت طبول الحرب تدقّ في بغداد بدلاً من أن تدقّ في طهران.
ذلك وضع تحت السيطرة بالنسبة الى الولايات المتحدة، غير أنه ليس كذلك بالنسبة الى الحكومة العراقية التي صار عليها أن تستعرض قوتها في الشوارع في محاولة لبث الطمأنينة في النفوس أولاً، ولاسترجاع شيء من هيبتها ثانياً. وهما أمران لا يمكن النظر إليهما إلا بإشفاق.
وإذا ما كان الكاظمي قد مُنع من مغادرة درجة الصفر في الإنجاز على مستوى الإصلاح ومحاربة الفساد من جانب مجلس النواب، فإن المسافة التي تفصل بينه وبين نظام "الأحزاب والكتل السياسية ومافيات الفساد، بما فيها مجلس النواب" أبقت على شيء من شعبية، كانت في طريقها إلى الاندثار بسبب قرارات التقشف التي أضرّت بالوضع المعيشي لذوي الدخل المحدود. لذلك كان في حاجة إلى نوع من النجاح لكي يستعيد شيئاً من تلك الشعبية، وهو ما اعتقد أنه في طريقه إليه حين اتخذت الولايات المتحدة وبلسان رئيسها موقفاً متشدداً من تكرار حوادث القصف في اتجاه السفارة والمواقع الأميركية في العراق. كانت تلك فرصته لكي يرفع شعار استعادة هيبة الدولة، وهو ما يعني الحد من حركة الميليشيات خارج إطار المعلومات التي يُفترض أن الحشد الشعبي يتداولها مع القيادة العامة للقوات المسلحة.
غير أن تلك الآمال أُحبطت حين قررت إيران أن تعيد النظر في نوع الهدنة التي فرضتها على ميليشياتها بعدما شعرت بضرورة أن تستمر تلك الميليشيات في فرض هيمنتها على الشارع في سياق أجندة إيرانية، من غير أن تعني تلك الاستعراضات العودة إلى توجيه الصواريخ إلى محيط السفارة الأميركية. وفي سياق تلك الأجندة يقف إحياء الذكرى الأولى لمقتل سليماني في الصدارة. بل صار هناك نوع من التبجيل الجنائزي الذي تحاط به تلك المناسبة هو أشبه بالطريقة التي يبجّل بها العراقيون ذكرى مقتل الإمام الحسين. فهناك الشهادة في سبيل القضية، يقابلها ندم عراقي يُراد له أن يكون تاريخياً.
لقد أعادت إيران النظر في معادلات الهدنة التي عقدتها مع الولايات المتحدة في ما يتعلق بسلامة الهيئات الدبلوماسية العاملة في العراق، وفي مقدمتها السفارة الأميركية. فتلك الهدنة لا تشمل سوى تطبيع صوري مع حكومة مصطفى الكاظمي لا يمتد إلى نشاط الميليشيات الولائية التي صارت بمثابة الممثل الرسمي لإيران بعد سفيرها. لذلك جاء تحريك تلك الميليشيات بعد ساعات من شعور الكاظمي بأنه فاز في جولة عليها حين سُمح له بالحديث عن قوة الدولة وقدرتها من خلال جيشها الكبير عدة وعدداً على بسط سيطرتها وحماية أمن المواطنين.
وكما يبدو، فإن التوقيت هو الذي غدر بتوجهات الكاظمي. فبعدما انتقلت إيران إلى الحديث عن استعدادها المفتوح للدفاع عن أراضيها في مواجهة إشارات الحرب التي بدت واضحة من خلال النشاط العسكري الأميركي المكثف في منطقة الخليج، صار من واجب الميليشيات في العراق أن تعلن استعدادها للانتقام لمقتل الجنرال سليماني. وهي مناسبة لا يستطيع أحد في العراق أن يقفز عليها للاعتبار الذي سبق ذكره.
واكتشف الكاظمي، من جهته، أن رهانه على تدخل أكبر للولايات المتحدة لم يكن في محله. لقد اكتفت الولايات المتحدة بالتعهد الإيراني من غير أن توسّع ضغوطها لتشمل حرية الحركة التي تتمتع بها ميليشيات الحشد الشعبي. ما يتم تداوله من أن الولايات المتحدة تركت رجلها وحيداً في مواجهة هيمنة إيران على مفاصل الدولة صحيح إلى درجة كبيرة. فلم يعد في إمكان الكاظمي سوى أن يبتلع تهديداته ويؤجل مسألة هيبة الدولة إلى مناسبة أخرى. وحتى بالنسبة الى الشعب صار سؤال: "متى تقع الحرب؟" أهم من كل الأسئلة التي كان يطارد بها رئيس الوزراء المهموم بانتخابات قد لا يكون له فيها أي حظ حسن.
عن "النهار" العربي