
عرفت الساحة السياسية في تونس تحولات جوهرية منذ 25 تموز / يوليو 2021، تاريخ إعلان الإجراءات الاستثنائية التي غيرت موازين القوى بشكل كبير، وهو ما أدى إلى تراجع الدور التقليدي للمعارضة، خاصة تلك المتمثلة في حركة النهضة ذات الخلفية الإخوانية، والتي كانت لعقود أحد أبرز الفاعلين السياسيين في البلاد. هذا التراجع لم يكن وليد لحظة واحدة، بل هو نتاج تراكمي لأسباب سياسية وقضائية وشعبية، ساهمت في إضعاف تأثير هذه الحركة داخل المشهد الوطني.
نشاط محدود
تركز الحركة على إصدار بيانات رسمية تنتقد سياسات الرئيس قيس سعيّد، خاصة فيما يتعلق بالحريات العامة، وتدهور الوضع الاقتصادي، وتراجع منسوب الديمقراطية، وتستثمر في الظهور الإعلامي الخارجي أكثر من الداخلي.
ورغم الخلافات، تحاول النهضة الإخوانية المشاركة ضمن جبهات مثل "جبهة الخلاص الوطني" التي تضم أحزاباً وشخصيات من مشارب مختلفة، بهدف خلق واجهة موحدة لمعارضة السلطة القائمة.
كما تحاول الاستثمار في علاقاتها الدولية، خاصة مع منظمات حقوقية وبرلمانات أجنبية، لتسليط الضوء على دخول أغلب قياداتها إلى السجون بتهم الإرهاب والفساد المالي والاغتيالات السياسية، وهو توجه مكثف منذ 2021.
ومن الملاحظ أيضا أن تحركاتها الميدانية صارت محدودة جداً بسبب الملاحقات الأمنية والملاحقات القضائية. وعادةً ما تكون مشاركتها في التظاهرات تحت عناوين أوسع، دون رفع شعارات إسلامية أو حزبية مباشرة.
ويرى مراقبون أن الحركة وحلفائها تسعى للبقاء كرقم سياسي عبر التحضير لأي استحقاق انتخابي قادم، سواء عبر قواعدها أو عبر واجهات مستقلة أو حلفاء، أملاً في استعادة جزء من حضورها المؤسسات، وذلك. رغم الغموض، الذي يكتنف نشاطها.
ولاعتبارات عديدة، فقد صار نشاط النهضة اليوم قائم على التفاعل الرمزي والسياسي أكثر من الفعل الميداني، وهي في مرحلة دفاع وبحث عن إعادة تموقع، أكثر من كونها قوة فاعلة كما كانت قبل 2021.
نقاط ضعف حركة النهضة
تطورات السنوات الأخيرة، كشفت عدة نقاط ضعف تعاني منها الحركة؛ فبعد أكثر من عقد في الحكم أو في قلب المشهد السياسي، تآكلت شعبيتها بشكل كبير بسبب فشلها في إدارة الملفات الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما جعلها في نظر شريحة واسعة من التونسيين مسؤولة عن تدهور الأوضاع.
كما أن معظم قيادات الصف الأول إما موقوفة أو ملاحقة قضائياً، وفي مقدمتهم راشد الغنوشي. وهذا خلق فراغاً تنظيمياً، وأربك آليات اتخاذ القرار داخل الحزب، خاصة في غياب بدائل قيادية تحظى بالإجماع.
إلى ذلك، فهناك خلافات داخلية بين تيارات الحركة، خاصة بعد الضغط السياسي والقضائي، حتى أ بعض القيادات الشابة غادرت أو نأت بنفسها عن القيادة التقليدية، وهناك تشكيك في نجاعة الخط السياسي الحالي.
وقد باتت أغلب القوى السياسية المدنية والديمقراطية لا ترغب في التحالف مع النهضة، بسبب التجربة السابقة أو لاختلاف المرجعيات، مما جعلها معزولة حتى داخل المعارضة، وغير قادرة على تشكيل جبهة قوية.
باتت أغلب القوى السياسية المدنية والديمقراطية لا ترغب في التحالف مع النهضة بسبب التجربة السابقة أو لاختلاف المرجعيات
وبسبب الفشل الذي راكمته خلال السنوات الماضية، فقد أصبح نشاطها الحزبي الميداني شبه مجمّد بسبب الخوف من التتبع، كما أن العديد من الاجتماعات تتم في السر أو تحت تغطية قانونية أخرى. وهذا أثر على قدرتها في تعبئة الشارع أو تحريك قواعدها التقليدية.
ورغم تراجع شعبيتها، لم تقدم الحركة إلى اليوم مراجعات فكرية أو سياسية واضحة. نفس الخطاب ونفس الأوجه لا تزال حاضرة، مما يجعل من الصعب استعادة الثقة أو التموقع من جديد.
إفلاس سياسي
ولأنها فقدت البوصلة الفكرية والشرعية الشعبية والقدرة على التجدد، باتت الحركة الإخوانية تعاني من إفلاس سياسي حقيقي، مما يجعل عودتها للمشهد كفاعل رئيسي أمراً صعباً دون مراجعة جذرية.
ومن مظاهر هذا الإفلاس السياسي؛ غياب المشروع والرؤية خصوصا أن الحركة لم تعد تملك مشروعاً سياسياً واضحاً أو خطاباً مقنعاً للرأي العام، وكل خطابها يتمحور حول مزاعم استعادة “الديمقراطية”، دون طرح بديل أو تصور حقيقي لحل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد.
هذا إلى جانب الارتهان للمظلومية دون نقد ذاتي، حيث اعتمدت الحركة على خطاب الضحية، دون القيام بمراجعة جدية لمسارها منذ 2011. ولم تعترف بأخطائها في التحالفات أو في إدارة الحكم، مما عمّق نفور جزء كبير من التونسيين منها.
ورغم تراجع الغنوشي عن رئاسة البرلمان، لا تزال الحركة تدور في نفس الحلقة القيادية، دون فتح الأفق أمام قيادات شابة أو رؤية إصلاحية داخلية، هذا الجمود التنظيمي زاد من تآكل صورتها حتى داخل قواعدها، وفي ذلك عجز عن تجديد القيادة.
ويشير متابعون للشأن التونسي إلى أن "النهضة" فقدت القدرة على التفاعل مع التحولات، في ظل التحولات السياسية التي عرفتها تونس، حيث فشلت في إعادة تموقعها كمعارضة ذكية أو كشريك في حلول وطنية. لم تستطع التكيف مع المشهد الجديد وواصلت خطابها القديم، وكأنها لا تزال في 2013.
هذا ولم تعد النهضة تملك القدرة على تحريك الشارع أو حتى استقطاب الفئات الاجتماعية التي كانت تساندها سابقاً. وهذا دليل على سقوط قدرتها التأطيرية، وهي خسارة استراتيجية لحزب كان يوصف بأنه الأقوى تنظيمياً.
سيناريوهات المستقبل
يعيش التنظيم الداخلي حالة شلل بسبب غياب القيادة وتفكك الهياكل، خاصة مع ابتعاد عدد من القواعد الشابة، وضعفت الآلة الدعائية للحركة ضعفت بشكل لافت، وواجهاتها الإعلامية لم تعد قادرة على تشكيل رأي عام مساند، وفي حال تواصل هذا الوضع، فإن النهضة قد تندثر وتتلاشى، بحسب أغلب القراءات
وفي حال قررت النهضة إعادة التموضع، قد تتخلى عن الطموح السياسي المباشر، وتتحول إلى "حركة قيمية"، تشتغل على ملفات الأسرة، الهوية، العمل الخيري، التعليم الموازي، وقد تحتفظ بجزء من تأثيرها عبر المجتمع المدني أو شبكات الجمعيات التي كانت تنشط فيها سرا.
ومن غير المستبعد إذا حصلت أزمة سياسية أو اقتصادية حادة، أو تغيّر في ميزان القوى (داخلي أو خارجي)، أن تستفيد النهضة من حالة الفراغ أو الانقسام لاستعادة مكان في المشهد، لكن لن يكون ذلك بنفس الشكل السابق، بل عبر تحالفات جديدة، وبقيادات جديدة غير مرتبطة مباشرة بالمرحلة القديمة.
يمكن أن تعود تحت غطاء "جبهة ديمقراطية" أو "تحالف وطني" يضم قوى معارضة مختلفة، مع طمس للهوية الإسلامية الواضحة.