إنّ استقطاب التنظيمات الإرهابية للعناصر وتأطيرهم من خلال الخطاب الصوتي، يتم من خلال ثلاثة مستويات: العاطفي والمعرفي والسلوكي، وفي هذا السياق تحاول هذه التنظيمات ملامسة وجدان المتعاطفين و"الزبائن" المحتملين، من خلال الأناشيد، والأغاني الحماسية، التي ثبت أنّها تنقل الشخص من المستوى العاطفي إلى السلوكي، وفقاً لمتغيرات المحيط السياسي الذي يمرّ به.
صليل الصوارم
"صليل الصوارم نشيد الأباة.. ودرب القتال طريق الحياة... فبين اقتحام يبيد الطغاة.. وكاتم صوت جميل صداه".. هذه هي بعض كلمات نشيد "صليل الصوارم"؛ الذي أصبح علامة مميزة للإصدارات الرسمية لتنظيم "داعش" الإرهابي، وبلغ من الشهرة حدّ استخدامه من قبل بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي للمزاح والسخرية، وإنتاج نسخٍ شعبية منه على ألحان أفلام أو أغاني مطربين معروفين.
دخلت "داعش"على خط الأناشيد؛ حيث كان لها إنتاجها الخاص، بحجة أنّ الموسيقى "حرام"، ومنها: مدّوا الأيادي لبيعة البغدادي، ونشيد أبو بكر يا مرهب الأعادي، وصليل الصوارم، الذي أصبح علامة مميزة على إصداراتها التي تنتجها وكالة الفرقان التابعة لها، أو مركز الحياة للإعلام التابع لها أيضاً.
لم يبلغ نشيد من الشهرة مبلغ "صليل الصوارم"، رغم أنّه كان الأقل من ناحية عدد الكلمات، أو الأداء، أو اللحن، إلا أنّ شهرته جاءت من ناحية الصورة المصاحبة له، وهي؛ لهيب الحرب، والمعركة، والدماء، والموت.
"صليل الصوارم" من تأليف السعودي عبد الملك عودة، العام 2012، وكان أوّل ظهور له، في فيديو لقتل محمد السبعاوي، أحد أفراد قوات العراق التي كانت تحارب التنظيم بالموصل.
يرافق نشيد "صليل الصوارم" معارك "داعش"، وتصوير إقامة أحكام الإعدام على أعداء التنظيم، منها: فيديو إحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، أو فيديو قتل المسيحيين المصريين في ليبيا، وحين يخفت الصوت، تكون الصورة الدموية هي المعبّرة عما يريده التنظيم!
يشير صليل الصوارم، في الغالب، إلى الحكم بالردّة على المخالفين، كما يدعو إلى القتال، والتعاون في حرب المرتدين، وظهرت منه أربعة إصدارات، آخرها الفيديو الذي أظهر إحراق الكساسبة.
حكاية النشيد الجهادي
ما بين "صليل الصوارم" وأول نسخةٍ مسجلةٍ من أناشيد القتال حكاية طويلة؛ هي حكاية النشيد الجهادي، ومنشدي الجماعات، الذين تم تشغيلهم للاستقطاب، وحكايات أخرى عن جمع أدلة من بطون الكتب في محاولة للتدليل على حرمة سماع الموسيقى، وتوجيه العناصر لسماع الأناشيد الدينية التي تدعو إلى القتال.
يعدّ أبو دجانة السوري أول من أصدر الأناشيد الجهادية، التي بدأت في أوائل السبعينيات، ولا يعرف اسمه الحقيقي حتى الآن، رغم أنّه ما يزال على قيد الحياة، بعد أن توقف تماماً عن الإنشاد، وكانت الجماعات الإسلامية تتداول نشيده المشهور "لن أركع أبداً لن أركع للظلم فيا كفر تقطّع .. لو كنت سجيناً لن أركع .. لو طال عذابي لن أركع"، وقد تلاه المنشد السوري "البربور"، لكنّ تجربته لم تدم طويلاً، لعدم تسجيل أناشيده التي أكملها بعض المنشدين الآخرين، مثل: أبو الجود، وأبو مازن، والأخير هو شيخ المنشدين وكبيرهم، وله تجربة ذائعة الصيت والانتشار في عالم النشيد الإسلامي، وهو الذي بدأ تجربته الأولى في الإنشاد في بداية السبعينيات بشريطه الأول، وكان عمره 18 عاماً، وهرب من سورية عقب أحداث مدينة حماة العام 1982، ظلّ هارباً ومتخفياً، حتى اكتُشف أنّه اعتزل الإنشاد، وكان يعيش في القاهرة طوال هذه الفترة، ليعود أثناء ثورات "الربيع العربي"؛ إذ استقبلته جماعة الإخوان في الأردن باحتفالٍ ضخمٍ أنشد فيه بعض أناشيده القديمة.
أصدر أبو مازن تسعة أشرطة مسجلة؛ كلّ شريطٍ منها يتطوّر عن سابقه من ناحية الأداء والألحان، وكان لجمال صوته، ودقّته في اختيار الكلمات والألحان الفضل في انتشارها جميعاً، لدرجة قوله في حفل استقباله في الأردن: لم أكن أعرف أنّ أناشيدي بلغت هذا الحدّ من الشهرة.
أناشيد أبو مازن كلّها تسير في اتجاه واحد؛ هو التعبير عن كلّ عموم الجماعات الإسلامية، وليس جماعة بعينها، وتتمحور جميعها حول المحنة، والصبر على البلاء، والأمل في التمكين، وقرب النصر.
مؤخراً؛ أصدر أبو مازن شريطه العاشر، بأسلوبه القديم نفسه، ألحان وغناء دون آلات موسيقية، إلا أنّه جاء متواضعاً؛ لأنّ عامل السنّ كان واضحاً عليه، بعد أن اقترب من عمره من الستين عاماً.
دخول الموسيقى
على نفس المنوال سار السوري أبو الجود، واسمه محمد منذر سرميني، الذي أنتج سبعة أشرطةٍ، كان واضحاً فيها أنّه قد درس الموسيقى بشكلٍ جيدٍ، إلا أنّه اختلف عن أبو مازن في استخدامه، هو وفرقته، الدفّ أثناء إنشاده، وهو أمر تحرِّمه عدد من الجماعات الإسلامية السلفية والجهادية.
توقّفت تجربة أبو الجود في شبابه، بعد أحداث مدينة حماة، إلى أن ظهر في مسابقة "منشد العرب"، وهو برنامج أنتجته قناة الشارقة في الإمارات، يحاكي برامج مسابقات الأغاني (أرب أيدول) وغيرها.
ظلت الأناشيد محصورة في منشدي الشام، وواصل حمل هذه المسيرة شاب في مقتبل العمر، هو: محمد مصطفى (أبو راتب) الذي أضحى علامةً جديدةً وفارقةً في أناشيد الجهاديين الحركيين، ولا يزال يواصل تلك المسيرة مع أكثر من عشرين شريطاً إنشادياً.
ابتدع أبو راتب ما يسمّى بـ"مهرجان الأنشودة"، وهو مهرجان سنوي تشارك فيه فرق إنشادية من بلدان مختلفة، أهمّها: الأردن، ولبنان، وفلسطين، وسورية، حتى ألقي القبض عليه في أمريكا، وخرج، بموجب اتّفاق، إلى تركيا حيث يواصل منها نشاطه حتى الآن.
في حقبة السبعينيات والثمانينيات، بدأت جماعة الإخوان العمل على إنشاء فرق إنشادية، راعت فيها، إلى حدٍّ كبيرٍ، أن تكون قريبة من الأغاني المشهورة، وأن تحاكي أغاني كبار المطربين، واستخدِمت فيها آلات موسيقية (الأورغ)، فظهرت فرقة "الندى" للأناشيد في المنصورة، وفرقة "الفتح" في الإسكندرية، وفرقة "فجر الإسلام" في المنيا، وكان لها نشيد مشهور خاصّ؛ هو "مين أدنا مين .. إحنا شباب الإخوان".
وفي أوج المنافسة بين تنظيم الإخوان والجماعة الإسلامية، عملت الأخيرة على تكوين فرقة إنشادية، أسمتها "المرابطون" كانت تنافس الإخوان إلى حدٍّ ما، وبالإجمال لم تحقق الفرق المصرية، الإخوانية والفرق التابعة لجماعة الجهاد أو الجماعة الإسلامية ما كانت تنشده.
ودخلت القاعدة على الخط بالأناشيد الخليجية، التي كان ينشد فيها عبد الله العسيري أناشيده الخاصة، وهو ذات الشخص الذي فجّر نفسه العام 2011 في محاولة فاشلة لاغتيال وزير الداخلية السعودي الأسبق، الأمير نايف بن عبد العزيز، رحمه الله.
وقد ظهرت أناشيد السلفيين في نهاية حقبة التسعينيات على يد أبو عمار، الذي ما يزال يصدر أناشيده التي تستخدمها القاعدة في أغلب إصداراتها.