"أصبحتُ أنتَ"... عندما تتجاوز السردية حدود الذات فتعانق تاريخ الوطن

"أصبحتُ أنتَ"... عندما تتجاوز السردية حدود الذات فتعانق تاريخ الوطن

"أصبحتُ أنتَ"... عندما تتجاوز السردية حدود الذات فتعانق تاريخ الوطن


29/01/2025

لكلّ كاتب عقدة شخصية، عندها يتبلور إبداعه، ويتمحور حبره ويتناسل إنتاجه، وكان جليّاً لمن قرأ ثُلاثية الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي، أنّ حبرها يطوف حول الوطن ويتخذ من عشقه محجة دائمة، إلّا أنّ كتابها الأخير: "أصبحتُ أنتَ" كان أكثر تفصيلاً لهذه العلاقة الصلبة التي ربطت أحلام بالجزائر، بهذا الرباط الذي جعلها تكتب ثلاثية غلافها العشق، وتقطر بماء الحب، ولكن في أغوارها العميقة تقص تاريخ بلد عربي كبير بثورته ومجاهديه ولصوصه وجسوره وجباله وأحلامه وانكساراته. لخصته أحلام في سردية بديعة كانت أقوى أجزائها: "ذاكرة الجسد"، أو ذاكرة وطن مُثقل، روت تاريخه على لسان واحد من مجاهديه "خالد بن طوبال"، أتبعته بذكر الكثير من أسماء الأبطال والمجاهدين والسياسيين في جزأين تاليين.

سيرة وطن

 كان كتابها الأخير "أصبحتُ أنتَ" الذي لا يصح تماماً أن يكون سيرة ذاتية أو سيرة روائية، بل هو أقرب إلى سيرة أبوة أو بنوة أو سيرة وطن، وهي عادة أحلام دائماً، فلا فواصل عندها بين العام والخاص؛ فالوطني الحقيقي لا بدّ أن يكون عاشقاً حقيقياً، الحب والوطن والصدق والنزاهة وشرف الوطن وشرف الحبيبة، كلها أمور تأخذ الطبيعة الواحدة نفسها، أبطالها لا تتجزأ مبادئهم، مَهيبين على جبهات القتال أمام أعدائهم، ويملؤون كراسيهم التي أسندها إليهم الوطن عن نزاهة حقيقية، أو عن ترفع وزهد كبير حين يشتمون أنّ الأمور لا تحمل معنى كريماً. كلّ أبطالها يعانون من داء التطرف، لا يعرفون المساومة على المبادئ ولا المسايسة ولا توفيق الأوضاع، حسب تردد النغمة القائمة، لهذا هم دائماً منفيون أو مقصيون، يعيشون على مفاخر أيام الرومانسيات الثورية، ويفقدون عقولهم أمام فلسفة الواقع العربية.

الكاتبة والروائية الجزائرية: أحلام مستغانمي

تقص علينا أحلام سيرة والدها "شريف مستغانمي"، وهو أب برتبة مجاهد، شهد فترة تاريخية صعبة وثرية من تاريخ الجزائر خاصة والوطن العربي عامة انتهت به إلى مستشفى أمراض عقلية... بعد قراءة سيرة هذا الوالد تُدرك إلى أيّ قدر أثر في أدب أحلام، بل كيف استقت منه أحلام الصفات النفسية والشخصية لأبطالها، وكيف جعلت من قضيته قضاياهم، كان "الشريف" إذاً عُقدة الأدب المستغانمي، أبطالها يشكلون ملامحه، هو الذي أحبّ الأدب ولم يكن له عمل فأسكنته كل أعمالها، واستنطقته على لسان أبطالها بعد أن أخرسه الوطن ومعه جيل كامل من رفاق لم يكن لهم جينات التكيف وتنازلاته، وكما ذكر هو بأنّه يكفيه أنّه جاء إلى الدنيا لينجب أحلام، أرى أنّه قدّم خدمة جليلة للأدب العربي بقراره نقل ابنته إلى مدرسة مناهجها بالعربية، إذ أهدى لنا مدرسة مختلفة في الكتابة، وقلماً وطنيّاً كما أراد.

ونعيد ترتيب الحكاية؛ إذاً كان هناك أب مُجاهد، عاش كفاح سنوات التحرير، تغرّب وتألم وسُجن وأحب وعشق وحلُمَ، ثم صارت الجزائر لأبنائها، أو تحديداً لحفنة من أبنائها فانهارت أعصاب الرجل وسكنه الجنون، أو لنكن أكثر دقة ثَبُتَ على مثالياته فاهتزّ عقله... لكنّه قبل أن ينطفئ تماماً كان قد مرر جيناته إلى ابنته، فأشعلت سراجه اللدن بتوهجها المبكر...، فلونت له عالم البياض الكثيف لمستشفى الأمراض العقلية، حمت ابنته عقله من أن ينزلق تماماً إلى هوة الانهيار، وواصلت كفاحاً ناعماً كان سلاحها فيه الكلمة، في وقت لم يكن لكلمة المرأة وزنها في عالم يحكمه الرجال، ولا تتسع فيه الأماكن لوجوه شابّة.

أدب صديق رغم كثافة السرد

لا تشعر بالغربة وأنت تقرأ في أدب أحلام، سواء كنت من وادي النيل أو من المشرق العربي أو مغربه، رغم كثافة السرد في كلّ أعمالها عن التاريخ القومي للجزائر، بشخصياته ومدنه وأحداثه، فالقصص العربية نغمة واحدة، وإن اختلفت الشخصيات والأماكن، وهذا ما يُعطي لأدب أحلام طابعاً قومياً، ويُحتفى بقلمها إقليمياً، ويكون ذا قرابة بكل قارئ عربي، وهو ما يكثف الإحساس نفسه بأنّ التاريخ الذي يعيد نفسه في البلاد العربية يصل بنا إلى استنتاج أنّ إشكال الديمقراطية في العالم العربي هو إشكال في بنية العقل العربي نفسه، في الأنساق التي يرى بها الغير والأنا والتراث والله والسلطة والحاكم، هذه تبصرات لا بدّ أن تخرج بها وأنت تقرأ الأدب المستغانمي الذي يقول في أعمق مراميه نحن نفشل في اختبار الديمقراطية منذ قرون، نتقدم إليه ولا نتأهل، بل كل تقدم نحوه هو لعب بالنار يخلف وراءه ألوفاً مؤلفة من الشهداء والمعتقلين والمشردين والمهتزين.

قصّت أحلام أيضاً بجوار سيرة والدها شيئاً عن مراهقتها في ظُرف بديع يُخفف من وقع الأحداث، وتشبك فيه القارئ معها في السردية، وهي عادتها أيضاً، حيث تعمد دائماً إلى مَسّ مناطق التشاركات النسائية والهمّ العربي الموحد، وحكت عن بعض همومها في استطراد كان غريباً على مجرى القصة، إذ بدت مناطق متفرقة من الرواية مأهولة بحمولة زائدة من الاستطراد لملء الفراغ أو لتخفف به الكاتبة حمولتها النفسية، خاصة تلك المواضع التي تحدثت فيها عمّن آذوها على مرّ تاريخها، أو استهجانها لبعض عادات العالم الأزرق، كما تجاهلت، لا أعرف إذا كان عن عمد أم لا، ذكر الأسباب التفصيلية وبالأسماء للوقائع التي جعلت الثورة تأكل بنيها، وأسباب دخول والدها المستشفى كنتيجة لهذه الأحداث، فالأسباب العمومية التي ذكرتها والتي كانت قد أشارت إليها في رواياتها السابقة وفي لقاءاتها أيضاً، كانت فرصة أن تجعل الكتاب أكثر خطورة وتذكر وقائع أكثر تفصيلاً لتلك المرحلة، وتُعطي للرواية خطورة مذكرات سياسية.

غلاف كتاب: "أصبحت أنت"

تحدثت أيضاً عن والدتها بمحبة وشفقة، وتفهّم لامرأة من زمنها، شاء القدر أن تكون زوجة رجل كاريزماتي مُجاهد ومثقف ووسيم، وهي على حظ قليل من التعليم وكثير من ذكاء القلب، تعاطفت الابنة مع أمها، لكنّ البادي أنّ أحلام كانت أكثر ميلاً إلى والدها، هو ميل نفسي وميل شخصي وتكويني وميل انتماء، إنّه ميل لا يظهر فقط في الملامح النفسية الواحدة للأب والابنة، ولا الملامح الشخصية للأب وأبطال روايتها، ولكنّه ميل يبدو أكثر غرابة، إلى درجة أن تُطارد الابنة أسرار قلب أبيها العاشق لامرأة ثانية غير أمها بعد عقود باحثة عن تتمة لقصته عسى أن تهديه اكتشافاً يبرّر عُمراً من الانتظار.

اللغة هي البطل

لمن يريدون قراءة العمل، أيّ سرد وتلخيص لا يمكن أن يحرق رواية لأحلام، لأنّ اللغة في رواياتها بطل كما الحدث، فأنت تبحث لا عن القصة وحدها، ولكن كذلك يعنيك الجملة السردية المُغمسة في الوجدان والتي تقطر حسّاً وعاطفة، وهو دوماً ما تدهشنا به الكاتبة، يعنيك كذلك القرب والألفة لعبارات تضفرها الكاتبة من المشتركات الإنسانية الواحدة، فإذا بك تضع خطاً تحت بعض الجمل كانت الكاتبة تعنيك بها، فإذا بها تفضّ شيئاً من نفسك أمام عينيك، فترتفع الكاتبة إلى مقام الأخت والصديقة.

كنت قد تعرفت على أدب الكاتبة منذ (10) أعوام تقريباً، اشتريت كتابها بآخر نقود كانت معي، ولم أعرف كيف كنت سأعود إلى البيت، صعدت إلى السيارة وخرجت منها وسرت في الشارع وفتحت باب البيت وأنا أقرأ في "ذاكرة الجسد"، لم أستطع التوقف، أو تحمل انتظار  الحكم في مصير خالد وأحلامه الثورية، وكأنّي كنت سأتلقى الحكم على أحلام جيلي أيضاً، إذ كنّا نعيش كذلك تلك الأحلام نفسها، فقد كانت ثورات الربيع العربي وتوابعها على أشدّها، وكانت ثُلاثية أحلام تناسب تماماً المزاج العام آنذاك بتوابعه الرومانسية والدموية، تناقضاته وجنونه وتطرفه، إذ سرعان ما تحوّل الربيع العربي إلى خريف دموي، دون أن ندري بسذاجة شباناً وصبايا ما الذي حلّ؟! فوجدنا أنفسنا شباباً من كل بقعة عربية تقريباً نتزاور على صفحة السيدة أحلام، ونقص عليها ما كان يجري، جعلنا من صفحتها مفكرة بيضاء نُخربش عليها صدماتنا وآلامنا ومنافينا؛ ظلم الأهل والأوطان لنا، استبداد العادات والسلطة، شكونا القصف والبرد والزلازل والفيضانات والمعتقلات، شكونا لها الأنظمة والاحتلال، شكونا الماضي والحاضر والمستقبل والقدر والحب، سجلنا على صفحتها أيام الوطن الكبرى وجراحاته الأشد، الفلسطيني واليمني والسوري والمصري والعراقي... الجميع كان يهذي، ونعيش البياض اللئيم نفسه الذي عاشه "الشريف" في المصح العقلي، إذ غدونا جميعاً جيلاً كاملاً باهتزازات عقلية ونفسية وجراحات غائرة، وغدت أحلام خيمتنا، وكما مدت أحلام لأبيها مفكرة مدت إلينا فضاءً كبيراً من البوح، ونشرت لكثير من الشباب والصبايا هذيانهم الداخلي، وكأنَّ أسطورة "العود الأبدي" حقيقة، والشخص سيكرر اختيارات المواقف الحاسمة نفسها في أزمنة تالية ومع أشخاص آخرين، كانت أحلام تُعيد إنتاج الماضي مع "شُرفاء" آخرين... أشهد للذاكرة وللتاريخ، ولأنّ أحلام كتبت هذه السيرة لتؤرخ لفصل في التاريخ العربي وتبرّ بوالدها، ومن المنطلق نفسه أقول: كانت أحلام لكثير من الشباب العربي خيمة وبيتاً ومفكرة بيضاء ووتداً في زمان أشدّ في التنكيل بالعقل من زمن "الشريف". ولأنّي واثقة أنّه في زمان قادم سيُعتد بتوثيق الـ (فيسبوك) للأحداث والكلمات، وستكون صفحاتنا متاحف حيّة لمن يأتون بعدنا، وسيجد الباحثون موادّ حيّة وجراحات ما زالت ساخنة على صفحة السيدة أحلام بالزمان والمكان والحدث تأريخاً لأكثر من (10) أعوام من البياض العربي اللئيم وهذيانه الأشدّ.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية