أزمة عون وبري: النخب السياسية تعصف بلبنان الجريح

أزمة عون وبري: النخب السياسية تعصف بلبنان الجريح


21/01/2021

ينسى البعض أنّ للبنان وضعاً خاصاً، يقوم على المحاصصة الطائفية في بنية النظام ومؤسساته، ويطرح قضايا مستنداً فيها إلى منطق، يبدو صحيحاً، لكن لا يجوز تنزيله على السياق اللبناني.

وشهد لبنان مؤخراً قضايا مماثلة، من بينها؛ إثارة مؤيدي رئيس الجمهورية، ميشال عون، من التيار الحرّ، قضية صلاحيات الرئيس في تشكيل الحكومة، وآخرها تفجير عون نفسه خلافاً كبيراً بعد أن طلب من المجلس الدستوري تفسير الدستور، بمخالفة منه لما جاء في الدستور، بأنّ تلك المهمة منوطة بمجلس النواب.

اقرأ أيضاً: هل يقطع “انفجار بيروت” حبل الود بين حزب الله والجيش اللبناني؟

وفي مثل هذه الحالات؛ يطرح تيار الرئيس حججاً قانونية، تبدو سليمة من حيث الشكل لكنّها لا تستقيم مع السياق اللبناني، الذي وصل عون نفسه إلى سدة رئاسته عبر بنيته الطائفية، ما يؤكد أنّ كلّ طرح خارج عن الوضع القائم، لا يسلم من التوظيف السياسي.

عون في مواجهة بري

وبدأت الأزمة حين طلب الرئيس عون من رئيس المجلس الدستوري وأعضائه الاضطلاع بدور تفسير الدستور، إلى جانب دورهم في الرقابة على دستورية القوانين، وذلك خلال زيارتهم لتسليم تصاريح الذمة المالية، في الثامن من الشهر الجاري.

المجلس الدستوري اللبناني

وقال عون: "من الطبيعي أن يتولى المجلس الدستوري، وهو ينظر في دستورية القوانين، تفسير الدستور؛ لأنّ القوانين تصدر انسجاماً مع القواعد الدستورية المحددة، وتترجم نية المشرع المرتكزة أساساً على نصوص الدستور".

واستند في طلبه إلى ما نصّت عليه وثيقة الوفاق الوطني، التي أقرّت في اتفاق الطائف عام 1989، وتحت باب "الإصلاحات الأخرى"، الفقرة (ب)، البند (2)، في وثيقة الوفاق الوطني، الآتي: "ينشأ مجلس دستوري لتفسير الدستور، ومراقبة دستورية القوانين، والبتّ في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية".

لفت الرئيس اللبناني ميشال عون إلى وجود ثغرات في النصوص التي تحدّد صلاحيات الوزراء، لا سيما أولئك الذين يتقاعسون عن تنفيذ القانون

غير أنّ الرئيس عون تجاهل ما جرى عقب العودة من الطائف، حين اتفق مجلس النواب على إناطة تفسير الدستور بمجلس النواب فقط، وأن يتولى المجلس الدستوري الرقابة اللاحقة على دستورية القوانين، وضمن هذا التعديل في الدستور.

فضلاً عن أنّ الرئيس عون رفض حضور اجتماعات الطائف، عام 1989، وكان وقتها رئيساً للوزراء، ولم يسلم القصر إلا بعد عملية عسكرية سورية ضدّه، وهو مُتهم من أطراف كثيرة بمحاولته الانقلاب على الطائف، للعودة إلى السلطات الكبيرة التي كانت لرئيس الجمهورية قبل الاتفاق.

وفي معرض حديثه مع أعضاء المجلس الدستوري، لفت عون إلى "وجود ثغرات في النصوص التي تحدّد صلاحيات الوزراء، لا سيما أولئك الذين يتقاعسون عن تنفيذ القانون، ويمتنعون عن تطبيق قرارات مجلس الوزراء ومجلس شورى الدولة، إضافة إلى تجميدهم مراسيم ترتب حقوقاً لمستحقيها، وذلك خلافاً لأيّ نصّ قانوني أو دستوري"، ودعا إلى إيجاد نصوص تمنع هذا الالتباس.

اقرأ أيضاً: حزب الله يدير لعبة التعطيل في لبنان

ومن جانب آخر، علّق رئيس مجلس النواب، نبيه بري، على حديث عون: "تبياناً لما ورد على لسان فخامة رئيس الجمهورية لرئيس وأعضاء المجلس الدستوري؛ فإنّ دور هذا المجلس هو مراقبة دستورية القوانين، دون أن يتعداها إلى تفسير الدستور، الذي بقي من حقّ المجلس النيابي، دون سواه، وهذا أمر حسمه الدستور ما بعد الطائف، بعد نقاش ختم بإجماع في الهيئة العامة، اقتضى التصويب".

وحول ذلك يقول نائب رئيس تيار المستقبل، مصطفى علوش: "طلب عون ليس مسألة انتقاص من مجلس النواب، لكنّ الدستور يقول إنّ مجلس النواب هو مصدر التشريع، وهو المخوّل بتفسير الدستور، أما المجلس الدستوري فيحقّ له الفصل في توافق القوانين مع الدستور أم لا".

نائب رئيس تيار المستقبل، د. مصطفى علوش

ومن جانبه، أشار عضو المجلس المركزي في حزب القوات اللبنانية، ورئيس جهاز التنشئة السياسية، شربل عيد، إلى أنّ "حقّ تفسير الدستور وفق اتفاق الطائف كان منوطاً بالمجلس الدستوري، لكن منِح هذا الحقّ إلى المجلس النيابي، استناداً إلى أنّ عدداً كبيراً من المجالس النيابية في دول العالم هي من تفسر الدستور".

الرقابة أم التفسير؟

وبحسب المادة (19) من الدستور اللبناني، لعام 1927، والقانون الدستوري رقم (18) لعام 1990، الذي أزال بند تفسير الدستور، أصبحت صلاحيات الدستوري هي: "يعود حقّ مراجعة هذا المجلس فيما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين إلى كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، أو إلى عشرة أعضاء من مجلس النواب، وإلى رؤساء الطوائف المعترف بهم قانوناً، فيما يتعلق حصراً بالأحوال الشخصية وحرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية وحرية التعليم الديني".

اقرأ أيضاً: تركيا تستميل الحريري وعينها على إخوان لبنان

وتنقسم الرقابة على دستورية القوانين إلى نوعين؛ رقابة سابقة، وأخرى لاحقة، ويتبع لبنان نظام الرقابة اللاحقة، التي تمنح الحقّ للفئات السابقة بالطلب من المجلس النظر في إبطال قانون صادر عن مجلس النواب، حال خالف الدستور.

اقرأ أيضاً: نصرالله يستولي على لبنان ويُنهي "آمال" الإنقاذ

ومن البديهي أنّ المجلس أثناء نظره في دستورية القوانين يقوم بمهمة تفسير الدستور، وهي الحجة الأساسية التي اعتمد عليها مؤيدو الرئيس لدعم مطلبه.

وحول الفرق بين التفسير والرقابة، يقول مصطفى علوش، لـ "حفريات": "الرقابة تنحصر بمراقبة موافقة القوانين مع الدستور، لكن إذا كانت هناك نقاط معقدة أو غير مفهومة في الدستور نفسه، فهذا ما يسمى تفسير الدستور".

عضو المجلس المركزي في حزب القوات اللبنانية، شربل عيد

ويتفق مع ذلك شربل عيد، في حديثه لـ "حفريات "إذ يرى بأنه "إذا كانت هناك مواد ملتبسة في الدستور فذلك يتطلب تفسيراً، وهو منوط بالمجلس النيابي، وفق الدستور، وتصريح الرئيس عون خالف الدستور، لذلك فجّر  الخلاف مع الرئيس بري".

أين المشكلة؟

ويبدو مما سبق أنّ المجلس الدستوري يقوم بمهمة التفسير بشكل عرضي، خلال بحثه حول دستورية القوانين، ويؤكّد على ذلك الخبير الدستوري اللبناني، سعيد مالك: "صحيح أنّ المجلس الدستوري غير مُكلّف دستوراً بتفسير الدستور، إنما مُباح له ذلك في سياق مراجعة طعون تقدَّم أمامه وبمعرضها".

ولا تثير هذه القضية مشاكل في معظم دول العالم؛ حيث تُناط بالمحكمة الدستورية، أو ما يوازيها، مهمة تفسير الدستور، ولا تعدّ هذه المهمة قضية جدلية، لكن في السياق اللبناني تتخذ أبعاداً أخرى؛ حيث إنّ الدستور ذاته قائم على مبادئ تخالف المتعارف عليه في دساتير العالم، بسبب خصوصية الحالة اللبنانية.

عضو المجلس المركزي في حزب القوات اللبنانية شربل عيد لـ"حفريات": تصريح الرئيس عون خالف الدستور، لذلك فجّر  الخلاف مع الرئيس بري

وربما تتخوف القوى السياسية من تغوّل دور المجلس الدستوري، على حساب المجلس النيابي، بتدخله في العملية التشريعية بناء على طلب من إحدى الفئات المخوّل لها مخاطبته.

إلى جانب ذلك؛ تضمن تركيبة مجلس النواب، وتوازنات القوى فيه مصالح القوى السياسية المهيمنة، التي تستند على أصوات الناخبين، ورغم ما يشوب النظام الانتخابي من ثغرات ومثالب، إلا أنّه يبقى المعبّر عن الأغلبية، بينما يُعين أعضاء المجلس الدستوري العشرة مناصفةً بين البرلمان ومجلس الوزراء، وتكون مدة ولاية كلّ منهم 6 سنوات، غير قابلة للتجديد.

اقرأ أيضاً: نيران الكراهية المتصاعدة تحرق خيام اللاجئين في لبنان

ويزيد حدّة الخلاف حول دور المجلس الدستوري، كون أكثرية أعضاء المجلس الحالي محسوبين على رئيس الجمهورية، ميشال عون، ويوضح ذلك نائب رئيس تيار المستقبل، مصطفى علوش: "نظرياً يجب أن يكون المجلس منزهاً عن الانتماءات السياسية، لكن، للأسف، مثل كلّ شيء في لبنان، لديه قواعد غير صحيحة أو غير صحية؛ ففي هذا المجلس أكثرية مؤيدة للرئيس عون، لكن ليس هذا سبب المشكلة".

ويرجّح كثير من المحللين أنّ هناك هدفاً سياسياً وراء طلب عون من المجلس الدستوري تفسير الدستور، فضلاً عن خرق هذا الطلب للدستور، الذي أقسم الرئيس على حمايته.

ويعدّ الرئيس عون محل جدل بين اللبنانيين، ومن المؤكد أنّه ليس الرئيس التوافقي الذي يطرح إصلاحات بهدف تطوير النظام السياسي، وهو ما يدركه خصومه؛ لذلك تصدّى بري بقوة لمطلبه من الدستوري.

وكان الرئيس عون قد أثار جدلاً، في تموز (يوليو) الماضي، حين طلب من المجلس الدستوري إبطال القانون رقم (7) لعام 2020، الذي أقرّه مجلس النواب، بذريعة عدم دستوريته، قافزاً على خطوة ردّ القانون إلى المجلس لتعديله.

اقرأ أيضاً: كيف ستنتهي سيطرة إيران في لبنان؟

وحذّر وقتها، الكاتب عوني الكعكي، في مقال نشره في صحيفة "الشرق"، من خطورة تسييس الرئيس للمجلس، وتوظيفه في الانقلاب على اتفاق الطائف "نحن الآن أمام التفاف واضح على سلطة مجلس النواب، ملوّحين بعصا المجلس الدستوري، ويا له من التفاف بخفايا الوعد الصادق! وبصدق المراقب. حذار من تسييس المجلس الدستوري، الذي نحترم ونجلّ جلّ أعضائه".

ويفتح غياب الثقة بين المكوّنات السياسية اللبنانية الباب أمام الكثير من التنبؤات حول الهدف من تصريحات الرئيس عون، فربما تكون ذات علاقة بتشكيل الحكومة، أو تعطيل عمل المجلس النيابي، أو المساومات السياسية، خاصة في ظلّ إصرار عون على تعبيد الطريق لتنصيب صهره، رئيس التيار الوطني الحرً، جبران باسيل، خلفاً له في رئاسة الجمهورية، وهو الأمر الذي يحتاج إلى توافق سياسي كبير، غير موجود، ومن غير المتوقع وجوده.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية