هل أغلقت صفحات "ديوان العرب"؟

هل أغلقت صفحات "ديوان العرب"؟


30/04/2018

يسخر الشاعر والناقد الأمريكي آدم كيرش من محاولة إحياء الشعر عبر تخصيص شهرٍ وطنيٍ له "لا ينبغي لنا أن نحتاج إلى شهر شعري وطني يذكرنا بأنّ الشعور الروحي الغامر هو جزء كبير من الأسباب التي تجعل الناس يقرأون القصائد ويكتبونها أيضاً".

جاء ذلك في مقال للشاعر والكاتب كيرش، نشر مؤخراً في باب الرد على تخصيص "شهر وطني للشعر"، فكل من قرّر أن يكون شهر الشعر الوطني في نيسان (أبريل) يجب أن يكون لديه روح خفة دم خادعة. فالأكثر شهرةً في  الشعر الحديث ما يقوله ت. أس. إليوت في قصيدته "الأرض اليباب"، "نيسان أقسى الشهور"، لذا تبدو فكرة قراءة الشعر على مدى شهر كامل، أشبه بالعقاب وأكثر ما هي مدعاة للمتعة الروحية الصافية.

فكرة قراءة الشعر على مدى شهر كامل أشبه بالعقاب وأكثر ما هي مدعاة للمتعة الروحية الصافية

لن نحتاج إلى شهر شعري، ولا شهر للموسيقى، أو للرسم. فالموسيقى بكافة أشكالها موجودة إلى حد الابتذال، ويتدفق الناس إلى الملايين من المتاحف الفنية، لكن أي كتاب شعري جديد، على امتداد العالم، سيكون محظوظاً بالحصول على ألف قارئ. لا عجب في ذلك، فالشعر أصبح قضية تورث القنوط والإحباط، ومنحه نسغ حياة جديدة يحتاج إلى دعم من المؤسسات والجامعات والحملات الثقافية المبتكرة الأشكال والأفكار.

من الغريب أنّ الأمور قد تحولت بهذه الطريقة كمصير لما وصل إليه الشعر، حتى في بلداننا العربية وإن كان "الشعر هو ديوان العرب".

فبعد كل الذي كان يشكله على امتداد معظم التاريخ البشري، حين كان الشعر ذائعاً ومؤثراً مثله مثل تلك الفنون الأخرى؛ بل كان أكثر شعبية من النثر، الذي هو حديث العهد في العالم الأدبي. فقد كتبت المآثر العربية شعراً، مثلما كتبت معظم الكلاسيكيات التاريخية الغربية قبل القرن الثامن عشر، شعراً، من ملاحم هوميروس إلى مسرحيات شكسبير. وهذا منطقي، عندما نفكر في أنّ لغة الشعر- التي شكلها الوزن والقافية، والزخرفة المنتظمة للصوت، أسهل للتذكر بكثير من النثر. وحتى اليوم، فإنّ أولى اللغات التي يتعلمها الأطفال عن ظهر قلب هي القوافي والأغاني. بل إنّ الأنواع الموسيقية الأكثر شعبية في العالم، جذابة إلى حد كبير؛ لأنها تجعل من استخدام تقنيات الشعر هدية روحية رائعة لا تقدر بثمن.

الشعر أصبح قضية محبطة ومنحه حياة جديدة يلزمه  دعم من المؤسسات والحملات الثقافية المبتكرة

في الواقع، إذا كنت تبحث عن القوافي الفريدة والكلام الموجز المزخرف،  فمن المرجح أن تعثر عليها في إسطوانة غنائية جديدة أكثر مما قد تجده في كتاب جديد للشعر. ذلك لأن الشعر في القرن العشرين خضع للتحول الحداثي ذاته الذي خضعت له الفنون الأخرى. في الفترة ما بين 1910 و 1920، فقدت اللوحة اهتمامها بالتجسيد، والموسيقى الكلاسيكية بدأت تنحّي الهارموني جانباً، وفي الوقت ذاته كان شعراء مثل إليوت وعزرا باوند وماريان مور يؤكدون إمكانية كتابة الشعر العظيم دون استخدام الأشكال التقليدية، ولاحقاً بدأت حركة تجديد مماثلة في الشعر العربي.

بيد أنّ ثمن هذا التجريب هو أنّ الشعر الحديث صار، مثل الفن الحديث، من الصعب فهمه وتقديره. إنّ صعوبة هذه الأعمال تأتي من كونها تخلت عن البساطة والزخرفة، وتوجب على المتلقي أحياناً كيف  يتعامل معها؛ حيث إنّه على الجانب الآخر منها توجد أنواع جديدة من الجمال. وهذا يشكل عقبة أمام القارئ إذا كان من النوع الذي يحب قراءة الأنواع الأخرى: السير الذاتية، التاريخ، والروايات، ويفكر في الشعر كبلد غريب وما هي أفضل طريقة للبدء بزيارته والتعرف إليه؟

كان شعراء مثل إليوت وعزرا باوند وماريان مور يؤكدون إمكانية كتابة الشعر العظيم دون استخدام الأشكال التقليدية

هنا يكون الشعراء حديثو الفكر والإحساس والشعور، ولكنهم لا يزالون على اتصال مع الأدوات التقليدية وملذات الشعر، حلاً ممكناً لغربة الشعر ومحنته. أي إنّ اللغة ما انفكت قادرة على الاتصال بالعصر، للتعبير بحداثة عن قضايا جوهرية في حياة الإنسان: الغربة، الموت، والحب بكل تجلياته. وفي شعرنا العربي المعاصر، أمثلة عميقة ومؤثرة في القدرة على التعبير عن تلك القضايا الجوهرية.

صحيح إنّ كثيراً من الشعراء، قبل النقاد ودارسي الأدب، يعتقدون أنّ الشعر هو مسألة استجابة عاطفية غريزية، وليس تبصراً وفهماً فكرياً، لكن العاطفة والذكاء العقلي ليسا بالضرورة على خلافٍ مع بعضهما بعضاً عندما يتعلق الأمر بالشعر، على العكس، فإنّ أعظم الشعراء قادرون على جعلنا نفكر بجرأة ونشعر بقوة وعمق في نفس الوقت. فما انفك شعر بدر شاكر السياب يقدم أمثلة على هذا النوع من الكتابة، فلغته مكتظةٌ بالعاطفة، لكنه ابتكر ضمنها صوراً وأفكاراً غريبة جداً ومثيرة للغاية:

عندما يتعلق الأمر بالشعر فالعاطفة والذكاء العقلي ليسا بالضرورة على خلافٍ مع بعضهما بعضاً 

ومن قصيدة "نبوءة حزينة" للسياب نقرأ:

"الظلال المقمرات الشحب

والسكون الخائف المضطرب

غابة ثكلى... وأشباح حزانى..

وجذوع كلها كانت زمانا

وجذوع في غد تلتهب...

ورياح سوف تذروها دخانا"

إنّ مقطعاً كهذا يظل حديثاً؛ لأنه يأخذنا مباشرة داخل وعي الشاعر ومنه وعي العالم عبر محسوسات مكانية لها علاقة بموطنه الصغير: قرية جيكور، وسواقيها وغابات نخيلها، بينما كان الشعر التقليدي يستخدم لإخبار القصص، في شكل ملاحم أو مسرحيات كما عند العرب والإغريق القدماء، فقد كانت تلك أهم أنواع الشعر. ولكن في الأدب الحديث، فإنّ صعود الرواية كان يعني أنّ النثر قد استولى إلى حد كبير على واجب إخبار القصص. الشعر اليوم هو بيان روحي خالص، صوت عقل واحد أو متحدث، يخبرنا بشعور ما.

الشعر يمنح المتعة الروحية من خلال تخلصه من مهمات الإخبار والإعلان والتحشيد، والطريقة التي يستخدم بها الصوت والصورة والتضمين للتواصل بطرق ليست بالضرورة منطقية تماماً، لكنه تعمل عبر التحفيز الجمالي ولهذا السبب، يبدو كلام الشاعر والناقد الأمريكي كيرش صحيحاً "لا يمكن إعادة صياغة القصيدة الجيدة: من المستحيل نقل كل شيء تقوله قصيدة بلغة أبسط؛ لأن خصوصية لغتها هي بيت القصيد".

يكتب بعض الشعراء قصائدهم عبر بساطة اللغة، وهو ما فعله سعدي يوسف وبعده الراحل الجميل محمود درويش بطريقة آسرة، وهذا النوع من الشعرهو جزء كبير في إقبال الناس على قراءة الشعر والتمتع بغوايته.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية