
في الأيام الأخيرة ظهرت في مناطق من سوريا منشورات ورقية تُنسب إلى جماعة تطلق على نفسها اسم "أنصار السنّة"، تحمل عبارات صريحة تحرّض على قتل المسيحيين واغتصاب نسائهم ونهب أموالهم، وتصوّرهم كـ "كفار" تجب إبادتهم.
ورغم أنّ فظاعة المحتوى بحدّ ذاتها تستوجب تحركاً أمنياً وإنسانياً عاجلاً، إلا أنّ التحليل النصي الموضوعي لهذه المنشورات يطرح علامات استفهام عميقة حول هويّة كاتبها، ويدل بقوة على أنّها لا تصدر عن جهة حقيقية منتمية إلى فكر أهل السنّة والجماعة، لا تقليدياً ولا جهادياً. بل هي أقرب إلى عملية تضليل متعمدة تهدف إلى التحريض الطائفي وتشويه صورة المسلمين.
أوّلاً: غُربة لغوية ودينيّة عن ثقافة أهل السنّة
- مصطلحات شيعية ومسيحية داخل نص سنّي؟
تستخدم هذه المنشورات تعبيرات لا تمتّ بصلة إلى الخطاب الإسلامي السنّي المعروف، بل تحمل في طياتها مفردات غريبة مشحونة برمزية دينية دخيلة:
• "المؤيد من الله": عبارة شائعة في الأدبيات الشيعيّة، خصوصاً عند الحديث عن "الإمام المعصوم" أو "المهدي المنتظر"، لا تظهر في التراث السنّي التقليدي.
ظهرت منشورات تحرّض على قتل المسيحيين واغتصاب نسائهم، لكن تحليلها يكشف تزويرًا فادحًا لا يمتّ لفكر أهل السنة بصلة.
• "قربان كريم"، و"كفّروا عن خطاياكم": تعبيرات لاهوتية مسيحيّة لا مكان لها في الخطاب الفقهي أو الجهادي الإسلامي، وتُستخدم عادةً في الطقوس الكنسية.
- غياب كلّي لأيّ استشهاد شرعي
لم ترد في المنشورات أيّ آية قرآنية أو حديث نبوي صحيح، وهو أمر شبه مستحيل في أدبيات الجماعات الجهادية التي تكثر من الاستشهاد بالنصوص لتبرير أفعالها.
- أخطاء نحوية وإملائية فادحة
المنشورات تعجّ بأخطاء لغوية ونحوية (مثل عدم التفريق بين المجزوم والمرفوع، أو الركاكة في تركيب الجمل)، ممّا يدل على أنّ من كتبها ليس عالماً باللغة العربية أو متمكناً من أدبيات التيارات الإسلامية.
ثانياً: تحريف فاضح للتراث الفقهي
- القول المنسوب إلى ابن تيمية
تزعم إحدى العبارات أنّ ابن تيمية دعا إلى قتل المسيحيين، لكنّ المراجعة الدقيقة لكتبه، خصوصاً "الردّ على الرافضة" و"الصارم المسلول"، توضح أنّ هذه الأقوال كانت موجهة ضدّ الرافضة والمنافقين، لا المسيحيين. بل إنّ ابن تيمية فرّق بدقة بين "الكافر الحربي" و"الذمي" الذي يعيش في دار الإسلام تحت حماية الدولة الإسلامية، حسب وجهة نظره.
- تشويه موقف الإسلام من المسيحيين
المنشورات تروج لفكرة أنّ المسيحيين "غنائم حلال"، وأنّ "دماءهم مباحة"، وهذا خارج تماماً عن الفقه الإسلامي الذي يحمي "أهل الذمة" ويؤكد على حرمة دمائهم وأموالهم، وفقًا لما ورد في الحديث النّبوي: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة"، [رواه البخاري]
ثالثاً: جهل صارخ بتاريخ المشرق الأموي
تدّعي المنشورات أنّ "العودة إلى عهد الأمويين" تمرّ عبر إفراغ المنطقة من المسيحيين، وكأنّ العهد الأموي كان نموذجاً لدولة أحادية الطائفة.
المنشورات تستعمل تعبيرات دخيلة مثل "قربان كريم" و"المؤيد من الله"، وهي مصطلحات شيعية ومسيحية غريبة عن الخطاب السنّي المعروف.
وهذه الفكرة تنمّ عن جهل فاضح بالتاريخ الإسلامي المبكر، خصوصاً في بلاد الشام، حيث كانت الأغلبية الساحقة من السكّان في العهد الأموي من المسيحيين، إلى جانب أقليات يهودية وصابئية ووثنية. ولم تكن العلاقة عدائية، بل على العكس، اعتمدت الدولة الأموية على المسيحيين في الإدارة، والطبّ، والعلوم، والمالية.
بل إنّ عدداً من خلفاء بني أمية قضوا حياتهم في كنف الأديرة، وخاصّة في غوطة دمشق، وغيرها من بلاد المشرق ومن أبرز الأمثلة:
• الخليفة عمر بن عبد العزيز، الذي أحبّ حياة الزهد وعاش فترة بين الرهبان، وتوفي في دير سمعان.
يُرجَّح أن تكون المنشورات أداة تضليل تهدف لإشعال فتنة طائفية، أو تبرير تدخلات خارجية تحت شعار محاربة الإرهاب.
• الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية كان يتردد على أديرة الغوطة للتعلّم.
• أقام الخليفة عبد الملك بن مروان مع أسرته في ظاهر دمشق، على السفوح السفلى لجبل قاسيون، حين كان دير مرّان عامراً، حيث قضوا وقتهم بين الرهبان وفي كنفهم.
أليسَ من المستغرب أن يجهل كاتب يدّعي الانتماء إلى تراث "أهل السنّة والجماعة" هذه الوقائع المعروفة في مصادر التاريخ الإسلامي؟ وكيف يُعقل أن يكون الحل في إبادة من عاش معهم بنو أمية واعتمدوا عليهم في إدارتهم للبلاد؟
رابعاً: الأهداف المحتملة لهذا التزوير
من خلال التحليل يتضح أنّ هذه المنشورات لا تنتمي فعليًا إلى أيّ تيار سنّي معروف، ويبدو أنّها عملية اختراق إعلامي أو استخباراتي مشبوهة تهدف إلى:
1. إشعال فتنة طائفية بين المسلمين والمسيحيين في الشام.
2. إعطاء مبررات لتدخلات دولية أو أمنية بذريعة محاربة "الإرهاب".
دعوة للتحقيق والمحاسبة
إننا ندعو:
• الجهات الأمنية السورية والدولية إلى فتح تحقيق فوري وجاد للكشف عن مصدر هذه المنشورات ومن يقف خلفها.
الردّ لا يكون بالإنكار العاطفي، بل بتحقيق أمني، وتعاون ديني مشترك، وتحليل صحفي يُفكك المضامين ويكشف الأقنعة المزوّرة.
• رجال الدين المسلمين والمسيحيين إلى التعاون في وأد هذه الفتنة، والتحذير من الانجرار خلف التحريض.
• الصحافة الحرّة إلى توثيق وتحليل هذه الظواهر بدل الاكتفاء بنقل الأخبار.
خاتمة: لا تنخدعوا بالأقنعة
المنشورات التي تظهر فجأة وتحمل تهديداً مباشراً لأقلية دينيّة، وتفتقر للأدلة الشرعيّة والمنطق اللغوي، ليست دعوة جهادية بل أدوات حرب نفسية. وما لم نواجه هذا النوع من التضليل بوعي وفطنة وتحقيق علمي، فسنظل نتخبط في دوامة الفتن.