صراع الجمهورية والإسلاموية: لمن الغلبة؟

صراع الجمهورية والإسلاموية: لمن الغلبة؟

صراع الجمهورية والإسلاموية: لمن الغلبة؟


10/06/2025

تطلّ، مجدداً، أزمة المواجهة بين فرنسا وجماعة الإخوان المصنفة على قوائم الإرهاب في عدد من البلدان العربية، لا سيّما في ظل الاستراتيجية الفرنسية لمواجهة التغلغل الإسلاموي في المجتمع الفرنسي، الأمر الذي يتخطى كونه أزمة سياسية وأمنية إلى وقوعه في نطاق أكثر تعقيداً يتصل بالهوية وقيم "الجمهورية" بالمجتمع في فرنسا. 

إذ إنّ التقرير الاستخباري الذي تم تداوله، مؤخراً، يحمل مؤشرات متعددة، أبرزها وجود أولوية لدى حكومة الرئيس الفرنسي ماكرون، باتجاه تصفية التأثيرات المتباينة للإسلام السياسي، ورفع الطبقات السميكة التي راكمها للتخفي وراءها بهدف الانتشار والتمفصل في المؤسسات التعليمية والثقافية، وبناء شبكات مصالح من خلال المجتمع المدني، وبدعاوى أو ذرائع خدمية وتنموية. وقد وصف التقرير الاستخباري هذه المحاولات بـ "الاختراق الإخواني المنهجي" للمجتمع الفرنسي. كما فضح الدور الخفي وغير المعلن لهذه الجماعات المتشددة التي تتبنّى وسائط ناعمة لتمرير رؤيتها وتعميم قيمها الراديكالية والمعادية للقيم الثقافية والقانونية الحضارية والمدنية الحداثية. 

الرئيس الفرنسي: إيمانويل ماكرون

اختراق العقد الاجتماعي

تهديد قيم الجمهورية لا يعدو كونه مجرد عنوان للأزمة، ولكنّه يعكس حجم الاختراق الذي يستهدف العقد الاجتماعي الذي شكّل فرنسا منذ تأسيس الجمهورية في مراحلها المتعاقبة، وأساسها اللائكية/ العلمانية، في صيغتها أو نموذجها الفرنسي الخاص. ولم تكن فرنسا، قبل عملية تسييس الدين وتديين السياسة وفرض الإيديولوجيا على المعطى الديني وبناء حوامل اجتماعية من خلال الجماعات الحركية بناء على مقارباتها البراغماتية والتلفيقية ورؤيتها الفئوية الضيقة والمتشددة، في عداء مع الإسلام كما تروج الإسلاموية. وبالتالي، المواجهة القائمة هي للحفاظ على المعنى الحضاري للإسلام وحماية "قيم الجمهورية". وكان شيخ الأزهر والمفكر الإسلامي محمد عبد الله دراز نموذجاً للحالة المرنة غير الصدامية بين الإسلام بالمعنيين الثقافي والحضاري مع الآخر من خلال تجربته الغنية في فرنسا إثر حصوله عام 1916 على شهادة العالمية، كما دَرَس الشيخ فلسفة الأديان بفرنسا في "جامعة السوربون" وحصل منها على شهادة الدكتوراه، وقد عاش بباريس (12) عاماً. 

غير أنّ أدلجة الدين وتسييسه مع المسار الانحرافي لقوى الإسلام السياسي، بدد فرص الانفتاح والحوار إلى صراع وتشنج وعصبية تسودها التوترات القصوى والتدميرية. وتحولت الجالية المسلمة في فرنسا التي تقدر بنحو (6) ملايين، وهي أكبر الجاليات المسلمة في أوروبا، إلى هدف للإسلاموية للشحن والتعبئة ضد المجتمعات الأوروبية. إذ تباشر التنظيمات الدينية تكتيكاتها القائمة على التسلل والانتشار الناعم من دون صخب، عبر تدشين مراكز دعوية دينية وجمعيات ثقافية فضلاً عن المساجد. وتكون بيئات انعزالية تدشن حواضن تراكم ما بات يُعرف بـ"إسلام الضواحي". 

وتبرز على سطح هذه التكتلات أو الشبكات خطابات معادية للعلمانية، تحرّض على تطبيق الشريعة أو الالتزام بالقيم الدينية المتشددة. وبحسب التقرير الاستخباري الفرنسي، هناك ما يربو على (139) مسجداً و(280) جمعية و(21) مؤسسة تعليمية تابعة أو قريبة من التنظيم، يتم استغلالها لتشكيل "حاضنة فكرية موازية" لتهديد قيم الجمهورية. ومن أبرز النتائج التي حذّر منها مراقبون وسياسيون فرنسيون، محاولات إعادة تشكيل الهوية الثقافية للمجتمع على فترات طويلة ممتدة، بما يتجاوز السياسات المؤقتة والعرضية، إلى الاستراتيجيات بعيدة المدى والممنهجة لإحداث أثر تراكمي. وقد كشف التقرير الاستخباري عن كيانات تعليمية وثقافية تتولى إدارة هذا الأمر، منها المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، ومدرسة ابن رشد الثانوية، ومعهد ابن سينا لتخريج الأئمة. 

وقال وزير الداخلية برونو ريتايو: إنّ لديه خطة جديدة تستند إلى تعطيل التمويلات الأجنبية، ومراقبة الجمعيات، وإغلاق المنشآت المتأثرة بالفكر الإخواني، ضمن مقاربة توصف بـ"الردع المدني".

وزير الداخلية الفرنسي: برونو ريتايو

أزمة تمسّ الأمن القومي

إذاً، تعكس المواجهة الفرنسية مع جماعة الإخوان والإسلاموية أزمة مُركّبة تمسّ الأمن القومي، وذلك من خلال تغلغلها في عمق أزمة الهوية الفرنسية. فقيم الجمهورية واللائكية الفرنسية هي ركيزة دستورية. بالتالي، فإنّ مواجهة الإسلاموية لها بتفكيكها أو محاولة مزايحتها بالحواضن الإسلامية التي تعاود تشكيلها هوياتياً، تجعلها أمام تحدٍّ حضاري وثقافي قادم من داخل حدودها. ويمكن القول إنّ السياسات الفرنسية تواجه مؤخراً بحزم النشاط الإسلاموي، وخاصة الإخوان، مع رغبة في الإبقاء على معاني التعددية الثقافية واسترداد ما يمكن توصيفه بالإسلام الحضاري بعيداً عن التأثيرات المشبوهة والمشوهة الوافدة من التيارات الحركية.

وتخوض الجماعة الأم للإسلام السياسي حربها على فرنسا نتيجة هذه السياسات الجديدة التي تستهدف كبح نفوذها، والتضييق عليها، بينما تواصل توظيفها لقضية الحجاب ضمن استراتيجيتها المختلفة لإدارة صراعها أو حربها الثقافية في المجال العام الثقافي والسياسي والمجتمعي. وقد حذّر الخبير الفرنسي جان-مارك ألبرت من هذا الأمر، وألمح إلى استغلال الإخوان الحجاب لأداة أو رمز في عدائهم للغرب بالكليّة، وبالتالي، تجاوز الحجاب حمولته الدينية إلى أبعاده السياسية والديموغرافية العميقة.

وقال لصحيفة (لوجورنال دو ديمانش): "حوّل الإخوان المسلمون الحجاب إلى رمز في صراعهم الثوري ضد الغرب"، لافتاً إلى أنّ الجدل الدائر حوله لا يتصل بالحريات أو المساواة بين الجنسيين، إنّما يمسّ قضية الهوية والسلطة والماضي الاستعماري. وتابع: "يُستخدم اليوم الحجاب لاختبار حدود المجتمعات الأوروبية وفرض حضور مغاير في الفضاء العام. فمنذ حادثة حجاب كريل عام 1989، كان هناك تحذيرات من هذه الظاهرة، إلا أنّ الأصوات المنتقدة كانت تُهمّش وتُتهم بالإسلاموفوبيا". مشدداً على أنّ المعالجة القانونية وحدها غير كافية، وطالب بردٍّ حضاري شامل يأخذ في الاعتبار الجوانب الثقافية والديموغرافية. وختم قائلاً: إنّ "الحجاب الحديث لم يعد مجرد غطاء أبيض كما كان في الماضي، بل بات أسود اللون، معلناً نفسه كعلامة انتماء واضحة في الفضاء العام. فالحجاب ليس جزءاً من التاريخ الثقافي الفرنسي، لكنّه أصبح ساحة صراع حول الهوية الوطنية. غير أنّ حظره لن يكون كافياً لمواجهة التغيير العميق الذي يشهده المجتمع الفرنسي، والمطلوب حوار شجاع يعيد رسم ملامح التعايش في البلاد".

في المحصلة، تسعى فرنسا إلى تحقيق توازن دقيق وحذر بين حماية قيم الجمهورية (الخامسة) ومكافحة التهديدات الراديكالية، وبين ضمان حرية الدين والتعبير لمواطنيها المسلمين. ومع استمرار التحقيقات والإجراءات وبناء السياسات والقوانين والتشريعات والاستراتيجيات المختلفة، يبقى التحدي الأكبر هو تنفيذ سياسات فعالة دون المساس بالحقوق المدنية والحريات الأساسية.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية