
في إطار مواجهة الدولة للحركات الإسلامية والعمل على معالجة الآثار التي تركتها خلال عقود من الزمن على الشخصية المصرية؛ اتخذت الدولة والمؤسسة الدينية الرسمية بعد 2013 العديد من الآليات التي تهدف إلى ضبط المجال الديني وملء المساحة التي يشغلها التيار الإسلامي، ومن بين هذه الآليات ضم العديد من المساجد إلى وزارة الأوقاف والإشراف عليها وتوحيد خطبة الجمعة، كما عملت المؤسسة الدينية الرسمية على زيادة نشاطها وتعظيم دورها وتوسيع المساحة التي تعمل بها، فقامت من خلال العديد من الوسائل بزيادة التواصل مع الجمهور، فأنشأت العديد من المنصات على وسائل التواصل الاجتماعي التي تمارس الدعوة وتعليم العلوم الشرعية، وأسست العديد من المؤسسات التي تقدم خدمات مختلفة وتقوم بأدوار متنوعة سواء في الدعوة أو التعليم أو الإفتاء أو العمل الخيري، إلى غير ذلك من وسائل وأدوات الهدف منها زيادة قدرة المؤسسة الدينية على التأثير في المجتمع في مواجهة التيار الإسلامي صاحب التأثير الأكبر.
ومن بين الآليات التي تقوم بها المؤسسة الدينية ذلك المشروع الذي تقدمت به وزارة الأوقاف إلى الرئاسة، ويهدف إلى إنشاء "كتاتيب" في المحافظات تعمل، وفق تصريحات الوزارة وحديث رئيس الوزراء، إلى بناء الشخصية المصرية وزيادة الوعي ومواجهة الفكر المتطرف. وكالعادة اختلفت الآراء بشأن هذا المشروع بين مؤيد يرى أنّ له تأثيرًا إيجابيًا، ومعارض يرى أنّه ربما يمثل بابًا خلفيًا للجماعات الإسلامية تعود من خلاله وتمارس تأثيرها في المجتمع، وآخر يرى أنّه يمثل عودة إلى الوراء لا تقدّمًا نحو الأمام.
والحقيقة أنّ الموضوع له العديد من الأبعاد التي تجعل له بعض الإيجابيات وبعض السلبيات، كما أنّه يثير العديد من التساؤلات والملاحظات؛ فمن جانب يمكن للمشروع أن يحقق بعض النتائج الإيجابية، ومنها أنّه يعمل على تقنين أوضاع قائمة بالفعل، فالكتاتيب ليست فكرة جديدة سوف تعيد الأوقاف طرحها ولا فكرة انتهت مع الزمن سوف تعمل على إحيائها، لكنّها أمر واقع وموجود بالفعل سواء بشكله التقليدي الذي يتمثل في صورة الشيخ الذي يجمع الأطفال في أحد البيوت أو المساجد ويحفظهم القرآن بالطريقة التقليدية، أو من خلال مدارس القرآن المتطورة نوعًا ما بما يشبه المدارس، والتي تقوم عليها جمعيات أهلية، ويتم فيها تحفيظ القرآن مع بعض المناهج الدينية المبسطة، أو بشكله المتطور الذي يتم من خلاله استخدام الإنترنت للتحفيظ عن طريق شيخ، أو من خلال الأكاديميات التي تعمل على الإنترنت أيضًا، ويتم من خلالها تحفيظ القرآن وتعليم أحكام التجويد وتدريس بعض المواد الشرعية الأخرى، وهي أكاديميات يقوم عليها في الغالب أشخاص ينتمون إلى التيار السلفي، وعلى ذلك فالمشروع الذي تطرحه وزارة الأوقاف يهدف، من بين ما يهدف إليه، إلى منافسة التيار الديني وشغل جزء من المساحة التي يعمل بها هذا التيار، والتي من خلالها يستطيع التأثير في المجتمع، والكتاتيب القائمة جزء منها ليس بالقليل يشرف عليه أفراد ينتمون إلى التيار الإسلامي بمكوناته المختلفة الإخوانية والسلفية؛ وبالتالي فإنّ تقنين الأوقاف لهذ الوضع وإشرافها على نشاط الكتاتيب يُسهم في قدرتها على ضبط الأمر إلى حد ما، أيضًا فإنّ المجتمع ينتشر فيه العديد من الظواهر السلبية التي تظهر من خلال سلوكيات شريحة منه خاصة الشباب، كما أنّه مهدد بالعديد من الأخطار والتهديدات مثل المخدرات. وإنّ الدين، بما له من مكانة في المجتمع وقدرة على التأثير، يمكن أن يكون أداة لغرس القيم الإيجابية والأخلاق لدى الأطفال والشباب، ويمكن أن يكون أداة للضبط الاجتماعي التي تُسهم في الحفاظ على استقرار المجتمع، والكتاتيب هنا من الممكن أن تلعب دورًا في هذا الإطار.
لكن على الجانب الآخر، فإنّ طرح هذا المشروع يثير العديد من التساؤلات والملاحظات، ومن أبرزها؛ أنّ فكرة الكتاتيب تمثل دورانًا في دائرة مغلقة وتفكيرًا داخل الصندوق لا يعكس نمطًا جديدًا من التفكير، فالمشروع يهدف إلى إنشاء كتاتيب بالصورة التقليدية نفسها تقريبًا، مكان يجتمع فيه الأطفال من أعمار مختلفة ويرددون خلف الشيخ بعض الآيات ليتعلموا القراءة الصحيحة، ويقومون بتسميع الآيات والسور تباعًا. حتى ما تطرحه الوزارة من رؤية للمشروع من أنّه سوف يتم من خلاله تعليم قواعد اللغة العربية والحساب فلا جديد في ذلك، حيث إنّ هذا الدور هو دور المدارس ورياض الأطفال التي تلجأ إليها الغالبية العظمى من الأطفال منذ سن (3) أعوام تقريبًا، ففكرة الكُتًاب ربما كانت منذ عشرات السنين مفيدة في القيام بهذا الدور في ظل واقع كان يغلب عليه الأميّة وقلة عدد المدارس وضعف انتشار التعليم، لكن بعد تطور التعليم وإنشاء مدارس تغطي كافة البلاد، فإنّ العودة إلى الكتاتيب لكي تمارس هذا الدور إنّما تمثل عودة إلى الوراء وتفكيرًا داخل الصندوق، في ظل واقع يحتاج إلى أفكار مبتكرة وطرق تفكير متقدمة تتناسب مع التطورات الحاصلة في العالم.
أيضًا فإنّ حديث الأوقاف ورئيس مجلس الوزراء عن أنّ الكتاتيب سوف تُسهم في بناء الوعي وتكوين الشخصية المعتدلة وترسيخ قيم التسامح واحترام الآخر وحب الوطن، إنّما يمثل نوعًا من المبالغة التي لا تجد لها مصداقية على أرض الواقع، فكيف سيتم تحقيق هذه الأهداف وكيف ستقوم الكتاتيب بهذا الدور؟ لم تعلن الأوقاف عن رؤية واضحة للمشروع، ولا عن كيفية عمل الكتاتيب، بينما نرى في النموذج الذي قامت بتنفيذه الوزارة والمتمثل في الكُتّاب الذي أنشأته في إحدى القرى بمحافظة المنوفية كنموذج لهذا المشروع لا يبدو فيه أيّ تغيير عن شكل الكُتّاب التقليدي، ولا يبدو أنّ به أيّ ملامح للتجديد، ولا مناهج معينة ولا طريقة عمل من الممكن أن تتحقق من خلالها الأهداف المرجوة، كذلك لا توجد رؤية مطروحة من الوزارة حول القائمين على الكتاتيب ولا معايير اختيارهم ولا كيفية تأهيلهم للقيام بالدور المنشود لها.
كذلك فإنّ الكتاتيب ربما تكون من المسارات التي تستطيع الحركة الإسلامية توظيفها والعمل من خلالها بشكل رسمي، فالكثير من الأفراد المنتمين للحركات الإسلامية المختلفة وكثير من الأفراد المتأثرين بأفكارها موجودون في المجتمع، ويعملون من خلال المؤسسات الرسمية، والأوقاف بها أعداد غير قليلة ممّن ينتمون إلى الإخوان والتيار السلفي، والعديد منهم يمارس وظيفة تحفيظ القرآن من خلال الكتاتيب التابعة لهم، وربما يستطيعون العمل من خلال الكتاتيب التابعة للأوقاف، وبالتالي من الممكن أن يكون مشروع الكتاتيب أداة لإخضاع شريحة من الأطفال لسيطرة التيار الإسلامي وبصورة رسمية وشرعية، من خلالها يتم التأثير في هذه الشريحة ونشر الأفكار الخاصة بالحركة الإسلامية فيها، واستقطاب العديد منهم إلى المحاضن التربوية الخاصة بها.
كذلك فإنّ الحديث عن دور الكتاتيب في مساندة المؤسسة التعليمية في أداء دورها نتيجة عدم وجود مدارس أو فصول رياض أطفال كافية، إنّما يدل على أزمة تتمثل في عجز تلك المؤسسة على القيام بدورها، الأمر الذي يلفت الانتباه إلى ضرورة تطوير المؤسسة التعليمية بالشكل الذي يساعدها على القيام بدورها الأصيل، لا التسليم بحالة العجز وإسناد جزء من دورها لجهات أخرى أقلّ تطورًا منها.
أيضًا، فإنّ هدف بناء الوعي وتكوين الشخصية على أسس سليمة ينبغي أن يكون مشروعًا قوميًا للدولة، تُسهم في تنفيذه مؤسسات مختلفة، ويجب أن يكون مشروعًا له جوانب متعددة لا تركز فقط على جوانب وتهمل أخرى، فالاهتمام بالمناهج التعليمية وتطويرها بشكل يواكب التطور الحاصل، وتدريس المناهج التي تفعل ملكة التفكير النقدي، والاهتمام بالدور الثقافي للمدرسة وتفعيل المكتبات الموجودة بها، والاهتمام بالأنشطة المختلفة التي تُسهم في اكتشاف المواهب وتنميتها وتشكيل العقل والوجدان، والاهتمام بمراكز الشباب ودورها وقصور الثقافة والمسرح والسينما والفن عمومًا، كلّ ذلك يُسهم بشكل كبير في بناء الوعي وتكوين الشخصية على أسس سليمة، ويساعد على تقدّم المجتمع بالشكل الذي يجعله مواكبًا للتغيرات الهائلة التي تحدث في العالم، وقادرًا على المنافسة والوقوف بقوة أمام التحديات.