عبد الجواد يس
لم يتبن الإسلام فكرة الكهانة المنظمة، فلم يُنشئ هيئة ذات بنية إدارية، تملك صلاحيات سلطوية بالمعنى المعروف في اليهودية والمسيحية؛ فهل يعني ذلك أن تاريخ الإسلام لم يعرف فكرة “المؤسسة الدينية” التي تضرب بجذورها في التاريخ العام للتدين؟ أم إن هذه الفكرة عبَّرت عن نفسها، بشكل جزئي، من خلال الدولة “السنية” التي تقمصت مبكراً دور المؤسسة كحارسة للدين، ثم من خلال “الفقه” الذي تحول إلى مؤسسة معنوية واسعة، ظل نفوذها يتفاقم تدريجياً حتى ظهور الدولة الوطنية الحديثة؟
الدولة الوطنية –التي لم تتحول قط إلى دولة علمانية خالصة– ظلت تحافظ شكلياً على دور الحراسة الموروث من تاريخ الدولة السنية، وعادت إلى احتواء النفوذ المعنوي للمنظومة الفقهية من خلال تحويلها إلى هيئات داخلية ملحقة بجهازها الحكومي، وهو النفوذ الذي أخذ يتآكل بشكل تدريجي في ظل السيطرة الحكومية، وتغيُّر المزاج الروحي والثقافي للجمهور بفعل التطورات الحداثية.
فهل يمكن اعتبار هذه الهيئات الفقهية مؤسسات دينية بالمعنى التاريخي المعروف في تراث التدين؟ هل تملك حصرياً حق تمثيل الديانة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تلعب دوراً في إشكاليات الحالة الإسلامية الراهنة، وهي تواجه تحديات “التطور” التي تفرضها ضغوط الحداثة، وتحديات “النكوص” التي تفرضها الضغوط الأصولية المتفاقمة؟
تناقش هذه الورقة فرضية غياب مؤسسة تمثيلية جامعة على مدى التاريخ الإسلامي، قبل أن تنتقل إلى مناقشة النتائج التي ترتبت على هذا الغياب، وتأثيراتها السلبية خصوصاً، داخل الحالة الإسلامية الراهنة.
أولاً: مفهوم المؤسسة الدينية
يرجع ظهور الكنيسة إلى وقت مبكر من تاريخ التدين المعروف، وفي القدر المتيَقَّن كان الكهنوت قد تحول إلى مؤسسة ذات خصائص توجيهية في جميع الأنساق الدينية في الشرق الأدنى، قبل بدء التجربة العبرية؛ عند هذه المرحلة كان اللاهوت قد بدأ يحرز حضوراً نسبياً في بنية الديانة، ولكنها ظلت تحافظ على طابعها الطقوسي الاحتفالي الموروث من تقاليد التدين القديمة.
في الإناسة التقليدية بدءاً من سميث سادت الفكرة القائلة بأن الديانة القديمة كانت بالأساس ديانة طقوسية ذات طابع طوطمي جماعي، لم تعرف العقائد، وافتقرت إلى أي طابع ذاتي أو شخصي، وهي الفكرة التي يتبناها دوركهايم وفريزر وفرويد، وطبَّقتها جين هاريسون على الديانة اليونانية: “فالباخوسية تقوم على الانفعال الجماعي، وإلهها إسقاط لوحدة الجماعة. والدين وجدان جماعي يترجم إحساس النشوة التي تنجم عن الممارسات الطقوسية”.
ظلت خدمة الطقوس تمثل الوظيفة الأساسية لمؤسسة الكهنة، إضافة إلى وظيفة التواصل مع الإله والتوسط بينه وبين الناس، قبل أن يتبلور دورها الإنشائي في تشكيل اللاهوت وحراسته كمظهر من مظاهر تمثيل الديانة، وهي الوظائف التقليدية للمؤسسة الدينية كما تشكلت قبل ظهور اليهودية.
ويفترض البعض أن هذه الوظيفة الأخيرة لم تظهر قبل المسيحية، فجميع الديانات السابقة عليها بما في ذلك اليهودية “لم تقنن مبادئها الإيمانية الأساسية في منظومة دقيقة”، فالمسيحية –من خلال مؤسسة الكنيسة- هي التي استحدثت مفهوم المبدأ الإيماني (الدوغما) ومفهوم الهرطقة (العقاب على مخالفة المبدأ الإيماني كما اقترحته الكنيسة)، وهما المفهومان اللذان من خلالهما تظهر سلطة المؤسسة في تشكيل اللاهوت وحراسة الديانة.
ولكن هذا الافتراض ليس دقيقاً على إطلاقه: فالمسيحية لم تنشئ مفهوم اللاهوت، ولكنها وضعته في موقع الصدارة المركزية من بنية الديانة، على حساب الطقوس، كما في الديانات الوثنية السابقة، وعلى حساب الشريعة والطقوس كما في اليهودية، والمسيحية لم تستحدث مفهوم الهرطقة، ولكنها توسعت في استخدامه تعبيراً عن تضخم صلاحيات المؤسسة الدينية بشكل غير مسبوق، وفي الديانة المصرية -على سبيل المثال- كانت تعديلات إخناتون التوحيدية ضد عبادة آمون لاهوتية في جوهرها، وكان الجدل العنيف معها يتم في مواجهة مؤسسة الكهنة، التي تعاملت مع المسألة بوصفها حارسة لديانة آمون، وفي اليهودية يمكن الحديث عن تأخر المضامين اللاهوتية بشكل نسبي في نصوص العهد القديم، قياساً إلى المضامين السياسية والتشريعية، خصوصاً في الأسفار القديمة والوسطى، ولكن عملية تشكيل العهد القديم، التي تمت عبر مراحل متعددة على مدى زمني طويل، تشير في حد ذاتها إلى نشاط لاهوتي إنشائي واعٍ من قبل المؤسسة (راجع عمليتي التدوين الرئيستين في القرنين السابع والخامس ق.م. فقد جرت العمليتان، تحت إشراف المؤسسة وقريباً من سلطة الدولة، في سياق إصلاحي ديني يختلط فيه اللاهوت بالأغراض السياسية والاجتماعية).
تاريخياً، نشأت مؤسسة الكهنوت مستقلة عن الدولة، ولكنها ظلت قريبة منها بوجه عام، وتداخلت معها أحياناً من خلال شخص الملك الذي ظهر كإله أو كنائب للإله. وفي الغالب كان أحد الطرفين يستخدم الآخر لتحقيق مصالح متبادلة أو مشتركة، الأمر الذي ظل يسهم في تكريس الطابع الجماعي للديانة، وتنميطها كسلطة فوقية شمولية، على حساب الروح الفردي وحساسية الذات.
داخل السياق الكتابي الذي دشنتة الديانة العبرية، تكرست الوظائف الرئيسة الثلاث لطبقة الكهنوت، واكتمل “مفهوم” المؤسسة الدينية خصوصاً في المسيحية، من خلال النموذج التاريخي البارز الذي مثلته الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وهو النموذج الذي تُستخلص منه الخصائص المعيارية للمؤسسة الدينية بالمعنى التاريخي المعروف:
1- هيئة عضوية متخصصة، ذات هيكل إداري تراتبي.
2- صلاحيات إنشائية (فوق تفسيرية) مسندة مباشرة إلى النصوص التأسيسية، تكفل لها حصرياً حق تمثيل الديانة.
3- صلاحيات سلطوية (فوق وعظية) حيال الجمهور، مستقلة عن الدولة.
ثانياً: المؤسسة اليهودية
بالتوافق مع أنماط التدين المجاورة، نشأت اليهودية منذ البداية كديانة كهنوتية ذات طابع طقوسي. وحسب الرواية التوراتية (سفر الخروج 35-40) بدأت مؤسسة الكهنة في عصر موسى، أي قبل دخول كنعان، بأمر إلهي مباشر؛ لم يكتف الرب بتعيين هارون في منصب الكاهن الأكبر وتخصيص المنصب بالوراثة لأبنائه اللاويين، بل وجه بإقامة خيمة مقدسة كمقر (دائم بالمقاييس الصحراوية المتاحة) للكهانة، وأبدى اهتماماً بالتفاصيل، من مواد البناء، وتصميم المبنى، وترتيب محتوياته، إلى صناعة التابوت، والمائدة، ومذبح البخور، ومذبح المحرقة، ومرحضة الاغتسال، وبناء دار خارجية، حتى الثياب الكهنوتية، وصحيفة الإكليل المقدس:
“وكلم الرب موسى قائلاً في الشهر الأول، في اليوم الأول تقيم مسكن خيمة الاجتماع، وتضع فيه تابوت الشهادة، وتستر التابوت بالحجاب، وتدخل المائدة وترتبها، وتدخل المنارة وتصعد سرجها، وتجعل مذبح الذهب للبخور أمام تابوت الشهادة، وتضع سجف الباب للمسكن، وتجعل مذبح المحرقة قدام باب مسكن خيمة الاجتماع (…) وتأخذ دهن المسبحة وتمسح المسكن وكل ما فيه وتقدسه وكل آنية ليكون مقدساً، وتمسح مذبح المحرقة وكل آنيته، وتقدس المذبح ليكون قداس أقداس، وتمسح المرحضة وتقدسها، وتُقدِّم هارون وبنيه إلى باب خيمة الاجتماع وتغسلهم بماء، وتُلبس هارون الثياب المقدسة وتمسحه وتقدسه ليكهِّن لِي. وتُقدم بنيه وتُلبسهم أقمصة وتمسحهم كما مسحت أباهم كي يُكهِّنوا لي، ويكون ذلك لتصير لهم مسحتهم كهنوتاً أبدياً في أجيالهم” (40/1-15).
يكشف النص عن طبيعة طقوسية كهنوتية فجة تنتمي إلى نسق التفكير الديني التقليدي السائد في الشرق الأدنى القديم، ويكشف من ثم عن أن الديانة العبرية وهي تصدر في بدايتها عن هذا النسق شبه البدائي وتتطور عنه، إنما هي تكرار اعتيادي للتقاليد المعروفة في الديانات المصرية، والآشورية البابلية، والكنعانية الفينيقية التي يحملها الكهنة، وتدار من “المعبد” كمقر مركزي يسكن فيه الإله، أو يأتي كي يتجلى بالقرب منه.
يحتاج الرب إلى طاقم احترافي متخصص لخدمته في مكان محدد خاص، يقوم هذا الطاقم -الذي عليه ارتداء ملابس معينة كزي رسمي– بتقديم الخدمات المطلوبة للرب وفي مقدمتها الأضحيات القربانية، التي بقيت، ضمن شعائر طقوسية أخرى، كشاهد على التوافق مع ميراث التدين “الطبيعي” الأقدم، ويختص الطاقم دون غيره بعملية التواصل مع الإله والتوسط بينه وبين الناس.
يبدو التدين العبري المبكر امتداداً لنسق التدين التقليدي المجاور، وليس إنشاءً مبتدءاً لنسق جديد يولد بغرض التعبير عن الفكرة الإلهية المطلقة كمطلوب في ذاته، كما سيظهر في الطرح النظري المتأخر، الذي يعرض الدين من نقطة نظرية مجردة عن تاريخ التدين.
الممارسات العبرية المبكرة تكشف عن روح طقوسي قرباني اعتيادي، سيتراجع تدريجياً بشكل نسبي لصالح نوع من التجريد التوحيدي خصوصاً في “الكتابات” التي تمثل القسم الأخير من العهد القديم.
ظل الكهنة يقومون على خدمة الطقوس خصوصاً تقديم الأضاحي، ويستطلعون إرادة يهوه من خلال الوسائل القديمة بما في ذلك القرعة (القريبة من الأزلام المعروفة في شبه الجزيرة) والإيفود (ثياب ذات أصل مصري منقول إلى كنعان، توضع على الصور والتماثيل).
فيما يتصل بالعلاقة مع الدولة، يبدو استقلال المؤسسة العبرية مسألة بدهية، فوجود المؤسسة لا يسبق وجود الدولة زمنياً فحسب، بل إن الدولة لم تنشأ أصلاً إلا بتصريح مباشر من قبل المؤسسة؛ ففي قصة الملكية كما يرويها سفر صموئيل الأول: طلب الشعب من صموئيل أن يعين لهم ملكاً، وعلى الرغم من تحذيرات صموئيل للشعب من مغبة الخضوع لسلطة “علمانية” بديلة لسلطة القضاة الثيوقراطية “أبى الشعب أن يسمعوا لصوت صموئيل، وقالوا: لا، بل يكون علينا ملك فنكون نحن أيضاً مثل سائر الشعوب، ويقضي لنا ملكنا ويخرج أمامنا ويحارب حروبنا، فسمع صموئيل كل كلام الشعب وتكلم به في أذني الرب، فقال الرب لصموئيل: اسمع لصوتهم وملِّك عليهم ملكاً” (8/19-22).
في السياق العبري القديم –حيث يصعب الفصل بين الديني والسياسي– كانت مؤسسة الكهنة قريبة من السلطة السياسية، ولكنها حافظت على حضورها القوي داخل المجتمع في المجالين العام والخاص.
تقليدياً، كانت العملية الدينية تدار وتوجه من قبل مؤسسة الكهنة. وظلت ممارسات التواصل مع الرب تصدر أساساً عن هذه المؤسسة على الرغم من وجود رواة ومتنبئين مستقلين، وعلى الرغم من وجود أنبياء “معارضين” تواصل حضورهم إلى ما بعد تدمير الهيكل والنفي إلى بابل، لقد لعب هؤلاء الأنبياء المعارضون دوراً ملموساً في التراث الأدبي الذي سجله العهد القديم، ولكن الدور الأساسي في بناء الديانة يرجع إلى الكهنة، من خلال الإشراف على عمليات “التنصيص” الرئيسة المتتابعة، من مرحلة الملك يوشيا في القرن السابع (ق.م) حيث ظهر سفر التثنية الذي أعلن عن اكتشافه في المعبد الكاهن الأكبر حليقا، حتى مرحلة التأسيس الختامية في المنفى البابلي وعقب العودة.
بعد انهيار مملكة يهودا تزايدت أهمية الكهنة كممثل وحيد للهوية الوطنية، سواء بين البقية التي استبقها البابليون في يهودا أو بين المنفيين في بابل، حيث سيتحول الكاهن حزقيال إلى نبي ويؤدي بالصفتين معا دوره المعروف في التمهيد لإعادة تأسيس الهيكل، ومن المنفى سيعود عزرا الكاتب وسليل عائلة الكاهن الأكبر هارون، ليضع الصيغة النهائية للديانة كما تبلورت في المنفى تحت ضغوط القهر والأمل في الخلاص.
بعد العودة من النفي لم ينقطع حضور الأنبياء “الكبار”، ولكن سلطة المؤسسة ممثلة في الكاهن العظيم كما تسمية الأسفار المتأخرة ظلت تحتل موقعها المتقدم المكرس من الرب، وظل الأنبياء –الذين يقرون لها بهذا الموقع- بحاجة إليها لتمرير مطالبهم الدينية التي يفترض أنها صادرة عن الرب (راجع احتياج حجي النبي إلى موافقة الكاهن العظيم لإعادة بناء الهيكل (1/1-4)، ثم مكافأة الرب للكاهن العظيم على هذه الموافقة عبر الوحي إلى زكريا النبي: “خذ فضة وذهبا واصنع تيجاناً وضعها على رأس يهوشع بن يهو صادق الكاهن العظيم وكلمه قائلاً: هكذا قال رب الجنود هو ذا الرجل الغصن اسمه، ومن مكانه ينبت ويبني هيكل الرب، وهو يحمل الجلال، ويجلس ويتسلط على كرسيه ويكون كاهنا على كرسيه” (زكريا 6/9-13).
التطورات اللاحقة أسهمت في تعزيز السلطة الكهنوتية. توزع اليهود على جاليتين رئيستين في محافظة يهودا وبلاد ما بين النهرين، ومع الضغوط اليونانية ثم الرومانية التي انتهت بتدمير الهيكل الثاني سنه 70م تشتت كثير من اليهود في أنحاء العالم الروماني، ولكن سلطة الكهنة ظلت تجاور سلطات الحكم الذاتي في الجاليتين، وامتدت إلى الجاليات اليهودية في الشتات، مؤيدة في الغالب بتصريح رسمي من السلطات المحلية، يمنحها صلاحيات لاهوتيه وتشريعية ذات طابع اجتماعي.
ثالثاً: المؤسسة المسيحية
المسيحية –التي تبلورت كتطور عن اللاهوت العبري بعد انتقالها إلى الجغرافيا الهيلينية الأوسع– بدأت كديانة كهنوتية تدار من داخل المعبد عبر هيئة متخصصة لها صلاحيات التواصل مع الإله، كما في سائر السياقات الدينية المجاورة. بالطبع، ومع تطور آليات التنظير (اليونانية أساساً) ستظهر تأصيلات أكثر تجريداً وأقل تاريخانية لمفهوم الكنيسة ودورها في العملية الدينية، ولكن هذه التأصيلات لم تغير من طبيعتها كمؤسسة تختص دون غيرها، كما في الديانات القديمة، بالتواصل مع الوحي الإلهي.
الرب الذي كان يبدو في العهد القديم قريباً جداً من البشر (ممثلين في الشعب العبري) ومنغمساً إلى أقصى حد في تفاصيل التاريخ، نزل بنفسه إلى العالم (في هذا الشعب بالذات) وكشف عن ذاته في شخص المسيح، فصار المسيح “هو وسيط الوحي وموضوعه في آن واحد”. لم يعد ثمة حاجة إلى الأنبياء، فوظيفتهم كانت تنحصر في تعريف الأمة العبرية بالإله الأب الوحيد الحي تمهيداً لمجيء المخلص الموعود، وبمجيئه تم الوحي واكتمل، “فالعهد الجديد نهائي لا يزول أبداً”، ولن يرجع أي وحي “علني”، وبشكل حصري أوكلت إلى الكنيسة مهمة تفسير الكتاب باسم يسوع المسيح.
لكن سلطة الكنيسة لا تنحصر في مهمة التفسير، بل تتجاوزها إلى صلاحيات إنشائية على مستوى اللاهوت والتشريع. فالكنيسة “لا تنهل اليقين عن محتويات الوحي كلها من الكتاب المقدس وحده، بل أيضاً من التقليد المقدس الذي ورثته عن الرسل”، وهي في الحالتين ودائماً مؤيدة بإلهام الروح القدس”. (الدستور العقائدي حول الوحي الإلهي –مجمع الفاتيكان الثاني 1962-1965).
من حيث المبدأ كان ظهور هيئة منظمة تمثل الديانة الناشئة واقعة مفهومة في إطار الثقافة الدينية السائدة، وخصوصا الثقافة اليهودية التي انشقت عنها. كان الهيكل نموذجاً قريباً وموازياً لنماذج المعابد الوثنية الشائعة في المحيط الروماني المتوسطي. وكانت الحركة المسيحية تعمل في سياقات جدلية عنيفة في مواجهة أطراف يهودية ووثنية متعددة، وساعدت سياسات الاضطهاد الرومانية على تنشيط حاجاتها التنظيمية المبكرة.
قبل نهاية القرن الثاني كانت الحركة المسيحية قد أفرزت بالفعل كياناً إدارياً شبه منظم، بمسميات وظيفية مرتبة لإدارة النشاط المسيحي المتعاظم، وتمثيل ديانته الجديدة، لكن هذا الكيان –ولكي يتحول إلى مؤسسة نهائية راسخة- كان بحاجة إلى التطورات السياسية والاجتماعية التي انتهت بتحول الدولة الرومانية إلى المسيحية في القرن الرابع.
في المرحلة المبكرة لعبت الكنيسة دوراً تأسيسياً معروفاً في بناء المسيحية (صياغة اللاهوت النيقاوي الذي يمثل رؤية بولس، وفرضه كقانون إيمان حصري بإنشاء النص المسيحي الرسمي الذي يتضمن الأناجيل الأربعة بشكل انتقائي من بين الكتابات المسيحية المتعددة في القرن الرابع، واستبقاء الأسفار اليهودية كجزء من الكتاب المقدس، وهي خطوة ضرورية لفهم وتكريس سلطة الأناجيل، ولكنها أسهمت في تثبيت الديانة اليهودية، وتمديد حضورها، على الرغم من عوامل التعرية السياسية والاجتماعية المتعاقبة.
وبامتداد العصور الوسطى فرضت الكنيسة حضورها السياسي والتشريعي مقابل الدولة، وفي المجال الخاص، وكرست هيمنة صريحة للدين على مفردات الثقافة والاجتماع العام.
مع المسيحية اكتمل مفهوم المؤسسة الدينية بخصائصه الكلاسيكية في نموذج الكنيسة الكاثوليكية: استقلال كامل عن الدولة، مع تبلور فكرة التمثيل الحصري للديانة، وحراسة اللاهوت، التي كرست طابعها الشمولي التسلطي، وأسفرت عن نتائج سياسية وثقافية واجتماعية فادحة، تظهر بشكل واضح في سلسلة الحروب المذهبية، ومن خلال محاكم التفتيش التي ظلت لعدة قرون تعاقب بالموت على التفكير خارج إطار الكنيسة.
في واقع الأمر، جسدت الكنيسة الكاثوليكية، بشكل مثالي، خصائص الدور السلبي الذي لعبته المؤسسة الدينية عبر تاريخ التدين الطويل: فرض التنميط الجمعي للدين وتحويله عن مساره الطبيعي الذي ينبع من الذات ويستجيب لقانون التعدد، مع تكريس ثقافة التسلط وخلق قابليات دائمة لتوليد العنف.
لكن الكنيسة الكاثوليكية كشفت بعد عصر النهضة، عن دور إيجابي يمكن إسناده إلى المؤسسة الدينية بوصفها الممثل الحصري للديانة، وهو دورها في تنظيم عملية التراجع والانسحاب الجزئي التي اضطرت إليها المسيحية تحت ضغوط التطور الحداثي. الجانب الإيجابي لهذا الدور يظهر بوجه خاص على ضوء المقارنة مع الحالة الإسلامية المعاصرة، التي توشك على مواجهة ضغوط حداثية مماثلة، فيما هي تعاني من فوضى تمثيلية ناجمة عن مشاعية التحدث باسم الديانة، خصوصاً في ظل تفاقم المد الأصولي.
وبشكل نسبي، ساعد حضور المؤسسة، كممثل حصري للديانة، على تقليص حجم الظواهر الأصولية في السياق المسيحي، حيث ظلت الانشقاقات الفرعية تعامل بوصفها حركات هرطقية خارجة عن خطوط رسمية معترف بها من قبل الجمهور.
رابعاً: قبل الإسلام
لم تتطور ممارسات السدانة الجاهلية في المحيط العربي إلى نظام كهنوتي مرتب على الطراز المعروف في ديانات المعبد الزراعية القديمة (مصرية/ كنعانية/ بابلية) وفي اليهودية والمسيحية. فبالرغم من وجود الكعبة لم يكن ثمة ديانة شعبية جامعة ذات لاهوت محدد، تضم القبائل المتناثرة في محيط صحراوي واسع وقليل الكثافة.
كانت الكعبة مركزاً لتجميع الأصنام والرموز الوثنية الخاصة بالقبائل المتعددة، حيث تمارس كل قبيلة شعائرها الخاصة بإلهها، مع وجود خط جامع من بعض الطقوس المشتركة، وكان هذا التجمع بحاجة إلى نوع من التنظيم العملي لإدارة المكان وخدمته بالمعنى اللوجستي، وهي تحديداً وظيفة السدانة المسندة إلى قريش، بحكم الموقع والمكانة الاقتصادية.
لم يكن ثمة ديانة لاهوتية، بل نظام طقوسي تعددي، ومصطلح الكاهن الذي يُجمع غالباً على “كهان” وليس على “كهنة” لا يشير إلى طبقة دينية أو شريحة مهنية تابعة للبيت، بل إلى أفراد ذوي ملكات خاصة تتعلق بالعرافة والقيافة واستطلاع الغيب، وإطلاق مقولات مسجوعة على الطراز السامي القديم، وبالتالي فهو لا يقابل في العربية نظيره في السياق اليهودي العبري.
ولكن الحديث عن غياب كهنوت منظم في التدين العربي القديم، لا ينطبق على الأطراف الجنوبية والشمالية، حيث تكونت مجتمعات مستقرة بسبب الزراعة، وحضور سلطة الدولة، وحيث ظهرت ديانات ذات بنية لاهوتية. في الجنوب انتشرت المعابد على نطاق واسع (المؤرخ الروماني بلينيوس أشار إلى “60” معبداً في مدينة شبوة عاصمة حضرموت، وإلى “65” معبداً في مدينة تمنع عاصمة قتباد، وتحدث عن نفوذ اقتصادي وسياسي كبير لرجال الدين). وفي الشمال تشير المصادر إلى انتشار مماثل للمعابد ونفوذ الكهنة في الأنباط وتدمر.
خامساً: في الإسلام
على مستوى النص التأسيسي تغيب تماماً فكرة الكهانة الرسمية. منذ البداية تبنى الإسلام مفردات اللاهوت الأساسية في الديانة اليهودية (التصور الإلهي/ الوحي والنبوة بالمعنى التوراتي/ رواية التاريخ الإبراهيمي)، ولكنه نأى بنفسه بعيداً عن النظام الطقوسي اليهودي بمفرداته الأولية (الكهنوت المنظم/ مركزية المعبد/ أشكال الصلاة والشعائر)، ومن هذه الزاوية كان الإسلام يدور في فلك التدين العربي المحلي، فاعتمد بشكل مباشر منظومة الشعائر المتبعة حول الكعبة وفرض الحج إليها كركن من أركانه الخمسة، ومع ذلك لم يطور نظام “السدانة” القرشي المعروف إلى مؤسسة كهنوتية منظمة. لقد تم الربط بين نظام السدانة والتقاليد الوثنية المرفوضة، فيما جرى تنسيب الشعائر ذاتها إلى بقايا الميراث الإبراهيمي المقبول.
معنى ذلك أن الإسلام الناشئ كان على المستوى الإجرائي يعكس ثقافة البيئة الدينية المباشرة، التي لم تعرف الكهنوت الرسمي، وهو معنى مفهوم إناسياً، لأن منظومات الطقوس، بوصفها أنماطاً من السلوك الجماعي المتكرر، أوضح التصاقاً بأرضية البيئة المباشرة، بمعنى أنها أبطأ أو أقل قابلية للتنقل بين البيئات المختلفة من منظومات اللاهوت المحض باعتبارها أفكاراً.
هذا التخلي من قبل الإسلام عن فكرة المؤسسة، يشير إلى توجه جديد في التعاطي مع العملية الدينية داخل النسق الإبراهيمي. ويستدعي النقاش حول موقف إسلامي متمايز من الوظائف التقليدية للمؤسسة: الوساطة بين الله والناس/ خدمة الطقوس وإدارة المعبد المركزي/ تمثيل الديانة وحراسة اللاهوت.
حسب النصوص التأسيسية يجري التواصل بين الله والناس بشكل مباشر لا يحتاج إلى هيئة متخصصة للوساطة، (الله ليس بعيداً عن الإنسان الفرد “وهو أقرب إليه من حبل الوريد”) وينطبق ذلك على ممارسة الشعائر وطقوس العبادة (الفردية والجماعية) التي تنبع من القلب ولا تحتاج إلى خدمة فنية خاصة، وهي تأتي إجمالاً في مرتبة تالية على مرتبة الإيمان “أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر”، كما ينطبق على تمثيل وحراسة الديانة، فهي لا توكل إلى هيئة عضوية محددة، بل تُسند بشيء من الغموض إلى عموم المؤمنين، أو مفهوم الأمة “كنتم خير أمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر”.
منظومة الفقه والكلام المذهبية، التي تشكلت إبان عصر التدوين صارت تتوافر على سلطة نظرية شبيهة بسلطة المؤسسة، خصوصاً فيما يتعلق بتمثيل الديانة وحراسة اللاهوت، ولكن هذه المنظومة لم تتحول إلى مؤسسة كهنوتية قابضة بسبب النصوص التأسيسية، وبفعل الحضور الطاغي للدولة، خصوصاً على المستوى السني، وهي –خلافاً للكنيسة- لم تنسب لنفسها صلاحيات إنشائية داخل الديانة، خصوصاً من جهة اللاهوت وعملية إنتاج النص، ولكن صلاحياتها النظرية المتراكمة صارت توازي صلاحيات النص داخل المدونة المكتوبة وداخل الثقافة، قريباً من سلطة الدولة.
أسند الفقهاء إلى الدولة (الخليفة) وظيفة “حراسة الدين” ترجمة لثقافة الواقع السياسي الجديد الذي فرضه ظهور الدولة العباسية، بخطابها الديني المتأثر على مستوى الشكل والمضمون بالفكر السياسي الفارسي الذي سبقها في تأميم الدين وتوظيفه لخدمة المملكة الساسانية (مصطلح حراسة الدين مستعار بنصه من عهد الملك أردشير الذي يقنن علاقة الدين والدولة، بوصفها علاقة بين “توأمين لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه، لأن الدين أس الملك وعماده، ثم صار الملك بعد ذلك حارس الدين”).
لا ينطبق هذا التحليل تماماً على المسار الذي اتخذه الإسلام الشيعي، بسبب العوامل السياسية والكلامية التي وجهت هذا المسار بعيداً عن مؤسسة الدولة الرسمية، وبالتأسيس على فكرة الغيبة والنيابة عن الإمام طور الفقه الشيعي (الاثني عشري والإسماعيلي) بنيات تنظيمية ذات ملامح مؤسسية لا يعرفها النظام السني.
سادساً: الدولة الوطنية والهيئات الفقهية المعاصرة
ظل التراث القابض للدولة بامتداد التاريخ السني يطغى على حضور “الفقهاء” كهيئة أو قوة ذات نفوذ مباشر، ولكن السلطة النظرية لـ”الفقه” ظلت تحتل موقعها المركزي داخل الثقافة. النفوذ المباشر للفقهاء بهذه الصفة كان يظهر في فترات ضعف الدولة، وكان على الدولة الوطنية الناشئة حديثاً في القرن التاسع عشر تأميم هذه السلطة النظرية، من خلال احتواء الفقهاء وضمهم إلى جهازها الحكومي.
لم تكتسب الدولة الوطنية في السياق الإسلامي خصائص الدولة العلمانية الخالصة، فقيم الحداثة الشكلية (المستعارة من الغرب، والتي لم تستند إلى أرضية تطور جذري على المستويين الاقتصادي والاجتماعي) لم تتحول إلى مكونات بنيوية داخل الثقافة، وعلى الرغم من تفاقم التوجهات الحداثية على مستوى الشرائح العليا، وتبلور بيروقراطية مدنية، ظلت الدولة واعية بطبيعة التكوين المحافظ للمجتمع، وبشكل تلقائي استعادت دورها التقليدي كحارسة للدين، وإن في إطار عصري.
ومع استلحاق الفقهاء بالدولة اكتسبت منظومة الفقه –لأول مرة في السياق السني- قواماً مؤسسياً بالمعنى البيروقراطي، ولكنه ظل قواماً تابعاً يستمد سماته المؤسسية من علاقته بجهاز الدولة، سواء كجزء مباشر من هذا الجهاز كما في النموذج المصري (الأزهر) أو كملحق مجاور له كما يبدو في النموذج السعودي.
الفارق بين النموذجين ليس فارقاً نوعياً، فكلاهما –في نهاية التحليل- استلحاق للمنظومة الفقهية من قبل الدولة، التي تمثل دائماً مكان السلطة بحصر المعنى، ففي النموذج السعودي يبدو حضور الهيئة الفقهية بارزاً بشكل يوحي باستقلال نسبي عن الدولة، خصوصاً في المراحل المبكرة، حيث استُخدم مصطلح التحالف لوصف العلاقة بين الطرفين، وهو وصف مجازي، فالمسألة في الواقع لا تتعلق باستقلال الهيئة الفقهية بقدر ما تتعلق بطبيعة الدولة ودرجة انغماسها في الحداثة.
عند لحظة التكوين، ولمرحلة تالية، لم يكن الفارق واضحاً بين توجهات الدولة السعودية والنزوعات السلفية المحافظة للهيئة الفقهية، ولذلك بدا حضور الهيئة بارزاً بالقياس إلى مثيلاتها في السياق المصري أو التركي أو التونسي، حيث أعلنت الدولة عن توجهات علمانية أكثر وضوحاً، وعلى ضوء ذلك يلزم قراءة التراجع التدريجي في حضور الهيئة السعودية خلال المراحل المتأخرة، كرد فعل لتفاقم التوجهات الحداثية للدولة والمجتمع، وهي نتيجة طبيعية لحركة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي العام.
الخصائص البيروقراطية التي اكتسبتها الهيئات الفقهية لا تكفي لتحويلها إلى مؤسسة دينية بالمعنى الضيق، فهي –إضافة إلى تبعيتها للدولة- لا تملك تفويضاً نصياً أو تراثاً تاريخياً يكفل لها سلطة التمثيل الجامع للديانة، وهي السلطة التي مكنت الكنيسة من أداء دورها الاستثنائي لإدارة عملية انسحاب منظمة للديانة من المجالين العام والخاص، أي للقيام بعملية إصلاح ديني جذرية تمس الأصول التأسيسية (وليس مجرد تعديل فقهي على مستوى الفروع).
بدت هذه العملية ضرورية في حينها لتلافي خطر الانسحاق الكامل تحت ضغوط التطور الجذري في هياكل الاجتماع الكلية، ووفر حضور المؤسسة بديلاً لحالة الفوضى التمثيلية التي تنتج عن مشاعية التحدث باسم الديانة، وهي الحالة التي تظهر بوضوح في السياق الإسلامي الراهن.
بالكاد يشرع المحيط الإسلامي (العربي خصوصاً) في الاستجابة لمثيرات التطور الكلية (الاقتصادية/ الاجتماعية/ العقلية). لم تفرز هذه المثيرات الضغوط الحداثية الكافية لصدم النظام الديني ودفعه إلى إعادة التكيف (إصلاح جذري على مستوى الأصول التأسيسية)، ولكنها أفرزت ضغوطاً كافية لاستفزاز مخاوف هذا النظام عبر أطرافه الأكثر تحسساً للتطور، أعني عبر الأصوليات السلفية المتعددة التي تقدم كل منها نفسها كممثل للديانة.
تجمع الحالة الإسلامية بين حضور نسق تدين جماعي، وغياب ممثل رسمي جامع، الأمر الذي يؤدي عملياً في الوقت الراهن إلى توزيع سلطة التمثيل بين أكثر من جهة:
الهيئات الفقهية: التي لا تستند إلى تفويض نصي، والمقيدة بتبعية الدولة.
الدولة: التي تحمل خصائص نصف علمانية، ولم تتقمص دورها تماماً كحارسة للدين.
الجماعات الأصولية: التي لا تقر بأي دور للدولة، ولا تثق في الهيئات الفقهية، وتنظر إلى التطورات الحداثية كنقيض طبيعي وخطر وشيك يهدد الدين.
عن "مركز المسبار للدراسات والبحوث"