صنع الله إبراهيم... روائي يكتب ما يكون ويكون ما يكتب

صنع الله إبراهيم... روائي يكتب ما يكون ويكون ما يكتب

صنع الله إبراهيم... روائي يكتب ما يكون ويكون ما يكتب


26/05/2025

عند الحديث عن صنع الله إبراهيم لا يمكن قصر الحديث عنه بوصفه روائيًا وأديبًا كبيرًا، وهذه حقيقة، ولكن نحن أمام رجل شاهد على العصر، ويُعدّ مرجعًا لتاريخ مصر الحديث، رجل باهتمامات متشعبة تشمل التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لمصر والعالم على مدار أكثر من (80) عامًا، وقد استطاع أن يوظف كل هذه التأملات في مخيال روائي استثنائي، وبطريقة في السرد اتّسمت بالواقعية والرشاقة، ولعل القارئ الجيد لأدب صنع الله إبراهيم، سيلاحظ بسهولة كيف اتخذ من هموم الإنسان المصري خاصة، والعربي  عامة، مادة إنتاجه. وكما اتخذ نجيب محفوظ من الحارة المصرية خلفية لإبداعه، ومحورًا لانطلاقه، اتخذ صنع الله إبراهيم من الإنسان المصري الكادح والمهمّش والمغترب والرازح تحت أنواء التحولات السياسية والعالمية انطلاقته.

الروائي المصري: صنع الله إبراهيم

نبت صحراوي في الخلاء

وقد كان صنع الله إبراهيم نفسه واحدًا من هؤلاء العوام بالمعنى الذي يجعله مُبتلى بالثقل الوطني ذاته، وواحدًا من هؤلاء الأدباء المخلصين بالمعنى الذي يجعله لسانًا صادقًا لوطنه، وترجمانًا حقيقيًا للآلام والأمال والانكسارات والانتصارات التي اعتملت في قلب هذا الوطن  على مدار أكثر من نصف قرن، رفض سياسات عبد الناصر، ورفض انفتاح السادات، وكانت له اعتراضات شديدة على العصر المباركي، كان مُعارضًا بالطريقة التي منعته من أن يكون ابنًا للسلطة أو منتفعًا برضاها بوجه من الوجوه، حتى أنّه عرف سجونها وغضبها، وسكن شقة بسيطة في عمارة متواضعة دون مصعد جُلَّ عمره، اختار أن يعتاش من قلمه، وهو الخيار الذي يؤدي بأيّ مُثقف عربي إلى مهالك الفقر والجوع، لكن وعلى ما بدا من كتابات هذا الرجل ومواقفه ومنعطفات حياته أنّه أراد أن يعيش اتجاهاته، وأن يكون ما يكتب، ويكتب ما يكون، وقد نما وتعمقت موهبته كنبت صحراوي في الخلاء لا يمدّه أحد خارج ذاته بمصادر الحياة، ولهذا يمكن أن نقول إنّ صنع الله إبراهيم هو نبات برّي قاسٍ وخشن وعنيد.

وفي لقاءاته التلفزيونية يبدو رجلًا بسيطًا صادقًا يشبه الكثير من الناس الذين يمكن أن تصادفهم، غير أنّ حدقتي عينيه أوسع، فهما تعُبّان الكثير من التفاصيل اليومية في دنيا الناس وعالم السياسة والاقتصاد، ويَختزن هذه الجزيئات ويحوّلها بعقل نقدي متأمل ويقظ إلى عموميات للموادّ الأولية لرواياته، حكايا وأبطال يكونون مرجع صدق لحالة الإنسان المصري وتحولاته في العقود الأخيرة. 

لو استمعت لصنع الله إبراهيم وهو يحكي، فستشعر بأنّه من الممكن جدًا أن يكون هو بطل أحد رواياته، أو بطل كل رواياته، وفي كل بطل شيء منه، لا بدّ أن يكون عايش من كتب عنهم ونُسجت حياتهم معًا، واتصلوا بعمق بشكل من الأشكال، فرواية "اللجنة" بطلها الذي لم يُذكر له اسم قريب جدًا من أن يكون صنع الله نفسه، ورواية "ذات" لكل بطل من أبطالها بصمة من شخصية صنع الله نفسه.

غلاف رواية (اللجنة)، للروائي المصري صنع الله إبراهيم

بين كافكا وجورج أورويل

لا أعرف لماذا لم تأخذ رواية كرواية "اللجنة" طريقها إلى العالمية، فهي تقترب جدًا من كابوسية كافكا بواقعية شديدة ومؤلمة، وهذا لون من الأدب نادر من كتب فيه باحتراف في الأدب العربي، وهي في طرحها لا تقلّ جسارة وقوة عن رواية عام "1984"، ومع أنّها تتناول الموضوع نفسه، وهو أزمة الأنظمة الشمولية، وغياب الاستقلال والفردية، وموت روح المواطنة، لكنّها كانت أصيلة ومختلفة ومستقلة جدًا عن طرح جورج أورويل، عمد فيها صنع الله لتوضيح خطر الرأسمالية كنظام عالمي على الأفراد، فقد جعل من بطله على قدر ذكائه وسعة اطلاعه وإمكاناته الكبيرة شخصًا مستلبًا وضائعًا تحت طغيان الرأسمالية العالمية والسلطة المطلقة التي تمثلت في اللجنة التي انتهكت أعمق أغوار شخصيته وتحكمت في أنفاسه، ولم تقبل التأويلات التي جمعها في بحثه الذي طلبته عن شخصية "الدكتور" والذي كشف فيه فلسفة النظام العالمي الحاكم وضع فيه صنع الله إبراهيم تكثيفًا ذكيًا ورشيقًا للشكل  السائل لرجل الأعمال بفلسفته ومبادئه وجلده المتغير.

واتخذ من شركة "كوكاكولا" مثالًا حيًّا على الهيمنة العالمية وضياع الهويات الثقافية، ونموذجًا للاحتلال الاقتصادي والثقافي الجديد.

وفي رواية "ذات" اتخذ من امرأة مصرية بسيطة نموذجًا يعرض من خلالها، في دراما أثيرة وقوية، التحولات التي طرأت على المجتمع والمرأة المصرية ما بعد ثورة تموز (يوليو)، ولم تُجسّد رواية هذه المرحلة التاريخية الدقيقة بكثافتها وزخم حراكها مثلما فعلت رواية "ذات"، التي تحولت فيما بعد إلى عمل درامي من بطولة نيللي كريم.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية