
أجرى الحوار: رامي شفيق
في ظل مشهد سياسي ليبي يزداد تعقيدًا مع استمرار الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب، وتفاقم حالة الجمود المؤسسي، تواجه ليبيا تحديات جسيمة تعيق مسار الاستقرار وإعادة بناء الدولة. فمنذ التدخل العسكري عام 2011 انزلقت البلاد في أتون الفوضى والتجاذبات الإقليمية والدولية، وسط تغوّل الميليشيات وهيمنة سلطات الأمر الواقع، ممّا جعل من ليبيا دولة فاقدة للسيادة، كما يصفها ضيف هذا الحوار.
في حديثه لموقع (حفريات)، يرى الدبلوماسي والمحلل السياسي الليبي إشتيوي الجدي، الممثل السابق لليبيا في كوريا الجنوبية، أنّ الانقسام السياسي القائم لم يؤثر في وحدة الشعب الليبي وتماسكه المجتمعي، لكنّه حوّل البلاد إلى ساحة نفوذ أجنبية، تعج بالقواعد والقوات والميليشيات الخارجية تحت ذريعة "دعم السلطات الليبية".
ويؤكد الجدي أنّ تجاوز الأزمة لا يكون بتغليب طرف على آخر، بل في إقامة نظام حكم ديمقراطي عادل، يستند إلى الإرادة الشعبية دون إقصاء أو استفراد، مشدداً على ضرورة التوافق على خارطة طريق سياسية جديدة تؤسس لدولة مدنية قائمة على أسس الحرية والمساواة وسيادة القانون.
نص الحوار:
كيف تقرأ المشهد السياسي الليبي اليوم في ظل استمرار الانقسام بين حكومتي الشرق والغرب؟
ـ إنّ ما جرى في ليبيا عام 2011 بفعل التآمر الخارجي والتدخل العسكري الغربي/ الناتوي، وما تلاه من اعتداءات ميليشياوية وفوضى واضطرابات أمنية وسياسية، ظل محصورًا بين الأطراف الفبرايرية المتصارعة على السلطة والمال والنفوذ، ولم ينل من وحدة الشعب الليبي وتجانسه المجتمعي.
ولكن، مع أنّ الانقسام القائم بين سلطات الأمر الواقع شرقًا وغربًا لم ولن يؤثر في الوحدة الوطنية للشعب الليبي، إلا أنّ هذا الانقسام جعل من ليبيا دولة فاقدة للسيادة، تعج بالقواعد والقوات والميليشيات الأجنبية تحت ذريعة دعم سلطات الدولة الليبية.
برأيكم، ما العوامل التي تعمّق هذا الانقسام رغم المساعي الإقليمية والدولية لتوحيد المؤسسات؟
ـ يؤسفني القول إنني لا أثق في ما تصفه بالمساعي الإقليمية والدولية لتوحيد المؤسسات، ذلك أنّ الدول المتدخلة في ليبيا تتنافس فيما بينها على تعظيم النفوذ وكسب المنافع، وبالتالي حالة الانقسام تتيح لها فرصًا أكبر لتكريس وتوسيع وجودها في ليبيا.
هل تعتقد أنّ هناك إرادة حقيقية لدى الفاعلين المحليين لإنهاء هذا الانقسام، أم أنّ المصالح الضيقة تتغلب على المصلحة الوطنية؟
ـ واهمٌ من يظن أنّ الانقسام الحكومي يشغل بال القائمين على سلطات الأمر الواقع الحاكمة غربًا وشرقًا، ذلك لأنّ هذا الانقسام، وإن بدا صداميًا في ظاهره، فإنّه يخفي في باطنه تفاهمًا ضمنيًا بينهما على تقاسم السلطة والمال والنفوذ.
كيف تقيّم دور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا؟ وهل ترى أنّها قادرة فعليًا على الدفع باتجاه تسوية شاملة؟
ـ بدايةً، لا بدّ من التذكير بأنّ منظمة الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها لعبت دورًا سلبيًا للغاية في ليبيا إبّان الأحداث التي شهدتها عام 2011، فقد كان أمينها العام آنذاك، بان كي مون، وزير خارجية كوريا الجنوبية السابق، ذا شخصية ضعيفة لا يجرؤ على مخالفة توجيهات الإدارة الأمريكية والحكومات الغربية المعادية لليبيا. وقد انعكس ذلك سلبًا على دور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، إذ وقعت البعثة منذئذٍ تحت تأثير المبعوثين والسفراء الأمريكان والغربيين لدى ليبيا، فضلًا عن نفوذهم المباشر على سلطات الأمر الواقع الجديدة المنشأة بفعل إطاحة حلف الناتو بالنظام الليبي السابق. طبعًا، من شأن هذه الوضعية أن تحدّ من دور بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، وتحولها إلى مجرد أداة خاضعة لإرادة الدول الفاعلة المتدخلة في ليبيا.
هناك من يرى أنّ التدخلات الدولية تُعقّد المشهد أكثر ممّا تُسهّله. ما رأيكم؟
ـ السيادة الكاملة حق أصيل لكل دولة مستقلة تمارسها كيفما تشاء داخل حدودها.
ومن خصائص سيادة الدولة عدم التدخل في شؤونها الداخلية والخارجية، سواء كان هذا التدخل من عمل دولة أخرى أو منظمة دولية، مهما كانت المبررات، ومهما كانت الظروف والأحوال.
بالتالي، فإنّ السياسات السلبية التي تتبنّاها بعض الدول المتدخلة في ليبيا تجعل نظرة التشاؤم حاضرة عند النظر إلى طبيعة تدخلها؛ سواء المباشر عبر التواجد العسكري، أو بالتأثير على القائمين بتسيير مؤسسات الدولة الليبية، أو بشكل غير مباشر عن طريق دعم وتمويل ورعاية منظمات وجماعات متطرفة وميليشيات مسلحة، وزرع عملاء ومرتزقة، لخدمة أهدافها التوسعية، بغضّ النظر عن تبعات ذلك على استقرار ليبيا وأمن وسلام شعبها.
ما المطلوب دوليًا لدعم عملية توحيد السلطة التنفيذية والذهاب نحو الانتخابات؟
ـ إنّ من دواعي الحسرة وبواعث الأسى أن يحتاج أمر تشكيل حكومة ليبية موحدة لإذن من رعاة أجانب، فلا يمكن تشكيلها ما لم يحدث توافق بين حكومات الدول المتدخلة في ليبيا.
هذا في حين تستمر الجهود الدولية والمحلية للتوصل إلى حل سياسي شامل ينهي الانقسام السياسي في البلاد عبر تشكيل حكومة وطنية مؤقتة بغية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، لكن ما تزال هناك عدة عقبات، منها خلافات حول الإطار الدستوري والقوانين الانتخابية.
إلى أيّ مدى تلعب الاعتبارات القبلية والمناطقية دورًا في تعقيد الأزمة الليبية؟
ـ الشعب الليبي يتركب من مجموع القبائل الليبية، ولكنّه بطبيعته مجتمع متجانس. وهنا لست أنفي أنّ بعض المجندين من قبل الدوائر الاستخباراتية الأجنبية رفعوا شعارات قبلية وجهوية عام 2011 بغية تبرير عمالتهم وخيانتهم لوطنهم، وكوّنوا ميليشيات مسلحة نسبوها زورًا إلى مدنهم وقبائلهم. إلا أنّ الشعب الليبي لم يرَ سوى ميليشيات مأجورة تمتهن القتل والتخريب والسلب والنهب. ومع مضي الوقت تغولت وتحولت إلى أداة إرهاب وقمع وتسلط حتى على أبناء جلدتها. والحال هذه، لا يمكن إغفال خطرها على مجريات أيّ تسوية سياسية لا تروق لمستخدميها.
كيف تنظر إلى طبيعة العلاقة بين مجلس النواب في طبرق والمجلس الأعلى للدولة في طرابلس؟ وهل هناك فرصة لتقارب حقيقي في ظل تجاذب قوى الإسلام السياسي لدى المجلس الأعلى للدولة؟
ـ في مشهد يعكس عمق الأزمة السياسية التي تمر بها ليبيا، والتي باتت تطال معظم مؤسسات الدولة، بما فيها السلطة التشريعية (مجلس النواب ومجلس الدولة)، فكلا المجلسين منقسم على ذاته، ممّا يهدد استقرار مؤسسة السلطة التشريعية، خاصة في ظل تصاعد الانقسام في مجلس الدولة بين جبهتي المشري وتكالة طيلة الأشهر الماضية، ممّا جعل المجلس يواجه تحديًا في القيام بوظائفه الأساسية. وهو ما يمكن أن يُلقي بظلال من الشك على قدرة مجلس النواب في المضي قُدمًا نحو تحقيق تطلعات الشعب في إصدار قوانين انتخابية تلقى قبولًا من جانب الجميع. وبالتالي، فإنّ انقسام مجلس الدولة بين جبهتي تكالة والمشري لا يقتصر فقط على مسألة انتخاب رئيس المجلس، بل يشير إلى انشقاق أعمق قد يؤثر سلبًا على العملية السياسية بأكملها.
هناك حديث عن صفقات سياسية تُجرى خلف الكواليس بين بعض الأطراف في الشرق والغرب. هل لديكم معلومات بهذا الشأن؟
ـ شخصيًا، لا أسعى وراء معرفة ما يدور خلف الكواليس، ولا أدّعي امتلاك معلومات موثوقة عن صفقات سياسية أو غيرها. مع ذلك، لا أستبعد إجراء اتصالات ومشاورات بين مقرّبين من كبار القائمين على سلطات الأمر الواقع غربًا وشرقًا، خاصة في ظل التناغم بين بعض الفاعلين الإقليميين.
ما هي برأيكم خارطة الطريق الواقعية للخروج من الأزمة الراهنة؟
ـ منذ 2011 تعيش ليبيا صراعًا على السلطة والنفوذ والمال، لكنّ كل السلطات التي قامت على قاعدة تقاسم المناصب والمكاسب بين الأطراف الفبرايرية المتنازعة لم تحقق الاستقرار لليبيا. لأنّ حل الأزمة لا يكمن في تغلب طرف على آخر، أو استئثار الطرف الفبرايري بالسلطة وإقصاء الآخرين، بل في إقامة نظام حكم ديمقراطي يضمن أن تُدار الدولة بإرادة الشعب بأكمله، ودون أن يكون هناك غالب أو مغلوب.
بالتالي، ومن باب المسؤولية الوطنية، لا بدّ من التوافق على خارطة طريق سياسية جديدة تؤسس لدولة مبنية على أسس العدل والمساواة والحرية والديمقراطية.
وفي هذا الإطار، يمكن طرح مبادرة تتمثل في إعادة تفعيل مؤسسات الدولة الليبية المركزية، والعمل على تحقيق التحول الديمقراطي المنشود، ويكون ذلك من خلال:
تشكيل مجلس النواب لجنة من الخبراء ترسم خارطة طريق سياسية جديدة لمرحلة انتقالية مؤقتة، تُبنى على أسس واضحة للحكم الرشيد.
تحديد آلية موضوعية وشفافة لتشكيل حكومة جديدة مؤقتة.
وضع الترتيبات اللازمة لتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية حرة ونزيهة، تشارك فيها كل القوى السياسية على قدم المساواة، ودون إقصاء أو استبعاد، وبما يضمن توافقًا واسعًا بين مختلف المكونات الليبية، ويتولى مجلس الأمن الدولي دور الضامن لتنفيذها ومعاقبة المعرقلين.