سوريا ما بعد الأسد: انحسار النفوذ الإيراني وتعويم تركيا للإسلامويين

سوريا ما بعد الأسد: انحسار النفوذ الإيراني وتعويم تركيا للإسلامويين

سوريا ما بعد الأسد: انحسار النفوذ الإيراني وتعويم تركيا للإسلامويين


27/02/2025

منذ سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، ثمّة تحولات عديدة تجري على مستوى نشاط ونفوذ القوى الولائية والتنظيمات المسلحة الموالية للحرس الثوري الإيراني. إذ إنّ نطاق نفوذ طهران عبر وكلائها الذين تمكنوا من الهيمنة الميدانية والعسكرية، وخلق مربعات أمنية وطائفية في دمشق كما في بغداد واليمن ولبنان، شهد خسارات فادحة وانحساراً لما راكمته تلك الميليشيات من تواجد خلال العقد الماضي. وترتب على اندلاع المغامرة العسكرية لحركة حماس في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2023 إضعاف ما يُسمّى بـ "محور المقاومة"، الذي انخرط في تشكيل "جبهة إسناد"، لا سيّما مع الاستهدافات التي أطاحت بقادة وعناصر حزب الله، وأبرزها أو بالأحرى أكثرها فداحة تفجيرات "البيجر" التي حيّدت الآلاف من مقاتلي الحزب، وتصفية الجيل الأول والثاني المؤسس.

بدا فرار بشار الأسد مع اقتراب أفول العام الماضي من المشهد السياسي بسوريا أنّه يعكس انفراجة ظاهرية في ظل وضع قاتم ومأزوم على المستويات كافة، لكن في الوقت ذاته عكست المستجدات احتمالات ليست أقلّ صعوبة وتعقيداً عن سابقتها، خاصة مع صعود (الجولاني) القيادي الجهادي، المصنف هو وتنظيمه "هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً" على قوائم الإرهاب، إلى قمة هرم السلطة، وقد نصّب نفسه في الحكم بتفويض ذاتي، احتمى فيه بمجموعته العسكرية وبعض المتحالفين معها، بينما ما تزال تباعد بينه وبين الشرعية عوامل جمّة، أقلّها رغبته الواضحة في إقصاء الأطراف المختلفة والمكونات المتباينة في سوريا، كما برز في المؤتمر الوطني قبل فترة وجيزة، فضلاً عن سجله الإرهابي بين سوريا والعراق مع تنظيمي القاعدة وداعش، وتورطه في جرائم حرب، الأمر الذي يجعل المجتمع الدولي متوجساً من تفشي ظواهر عنف مماثلة مجدداً بعد وصوله إلى دمشق. 

رئيس الجمهورية العربيَّة السوريَّة للمرحلة الانتقالية: أحمد الشرع

إذاً، مع تعويم أحمد الشرع والقوى الإسلاموية المسلحة في سوريا، تبدو إيران وميليشياتها الخاسرين في ظل قدرة الحليف الروسي على تجديد رهاناته وبناء ارتكازات عمل جديدة مع السلطة الجديدة للحفاظ على مكتسباته، تحديداً القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم. وقد تنوعت على الأراضي السورية الاحتلالات التي فرضها الأمر الواقع، وخضعت لمحاصصة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، وبلغت نحو (830) موقعاً عسكرياً أجنبياً، (70%) منها تابعة لإيران، أي (570)، وفق المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات. كما شنت الجماعات المدعومة من إيران في سوريا هجمات على القوات الأمريكية وساعدت في شن هجمات على إسرائيل في ظل وجود النظام السوري السابق. ففي العام 2020 أنفقت إيران ما يقرب من (30) مليار دولار، حوالي (28) مليار يورو، لإبقاء النظام السوري السابق في السلطة.

وبحسب ماركوس شنايدر، مدير مشروع السلام والأمن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من مؤسسة (فريدريش إيبرت)، فإنّ "سقوط النظام السوري السابق من المرجح أن يكون له تداعيات على مصداقية إيران داخل ما يُعرف بـ "محور المقاومة" برمته"؛ ومن ثم عدّ شنايدر أنّ "هزيمة طهران في سوريا هي تكرار لسيناريو مماثل لهزيمة السوفييت في أفغانستان. ويمكن أن تبشر أيضاً بنهاية النظام في طهران نفسها". كما انهارت البنية التحتية الإيرانية العسكرية الواسعة في سوريا مع انهيار النظام السوري السابق، فانسحبت القوات الإيرانية إلى حد كبير من سوريا بعد انهيار النظام في نهاية العام الماضي، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وأوروبيين، ويمثل هذا التراجع الإيراني ضربة قوية لاستراتيجية طهران لفرض قوتها في الشرق الأوسط. فقد سحبت إيران كل أفراد الحرس الثوري الإيراني من سوريا، كما سحبت مقاتلي الجماعات المسلحة "الباكستانيين والأفغانيين والعراقيين واللبنانيين والسوريين".

تراجعت تلك الجماعات، بما في ذلك الحرس الثوري الإيراني، إلى "القائم"، وهي بلدة حدودية على الجانب العراقي. كما أنّ بعض العناصر الإيرانية المتمركزة في دمشق سافرت إلى طهران، بينما فرّ مقاتلو حزب الله في غرب سوريا برّاً إلى لبنان. وأُجبروا على ترك كمية كبيرة من المعدات العسكرية والأسلحة، والتي دُمّر الكثير منها لاحقاً في غارات جوية إسرائيلية أو استولى عليها تنظيم "هيئة تحرير الشام" ومجموعات أخرى.

وصفت (باربرا ليف)، المسؤولة الكبيرة في وزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأوسط، الانسحاب الإيراني بأنّه "استثنائي"، وأشارت إلى أنّ التضاريس الاستراتيجية في سوريا أصبحت الآن معادية للغاية لعودة وجود عسكري إيراني كبير. وأضافت: "هذا لا يعني أنّهم لن يحاولوا إعادة إدخال أنفسهم، لكنّها أرض معادية للغاية".

في حديثه لـ (حفريات)، يوضح الكاتب الصحفي شيار خليل أنّ الوضع في سوريا ما زال رهن إعادة التشكل، على المستوى السياسي والأمني والعسكري، فضلاً عن الضغوط المختلفة التي تقع تحت وطأتها الأطراف المنخرطة في البناء السياسي، غير أنّ طهران التي تُعدّ الخاسر الوحيد تبدو أمام "معضلة ليست هينة"، لأنّه لن تسمح القوى الدولية وإسرائيل بإعادة تموضعها في سوريا لتشكّل تهديدات كما في السابق على الدول الإقليمية، وتهدد مصالح الغرب وواشنطن، كما أنّ السلطة الجديدة ذاتها على ما يبدو بحاجة إلى الشرعية الدولية حتماً، ولن تسمح، كما صرّحت، بأن تكون البلاد منصة تهديد للخارج.

شيار خليل: الوضع في سوريا ما زال رهن إعادة التشكل، على المستوى السياسي والأمني والعسكري، فضلاً عن الضغوط المختلفة التي تقع تحت وطأتها الأطراف المنخرطة في البناء السياسي

الأكثر فداحة لطهران هو خسارة حليف إقليمي، وركن أساسي في مشروعها الإيديولوجي "الهلال الخصيب"، والذي كانت تطوقه أمنياً وعسكرياً بميليشياتها المتمركزة بين سوريا والعراق ولبنان، قبل الهزائم التي لاحقتها بعد حرب غزة، وفاقم ذلك الوضع الجديد أزماتها في الإقليم، وتقليص قدراتها بالمنطقة وهو استنزاف استراتيجي. وسرعان ما لعبت تركيا دوراً في ملء الفراغ الإيراني، لجهة بناء قوة إقليمية، وتوسع نفوذها لتكون لاعباً ينفرد بسوريا بعد "الأسد"، وبما يعزز من نشاطها بالمنطقة وتحقيق مصالحها.

كما استغلت إسرائيل الوضع لتعزيز وجودها الأمني في المناطق الحدودية مع سوريا، فقد سيطرت على أجزاء من المنطقة العازلة وجبل الشيخ بعد سقوط دمشق. وصرح وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر بأنّ هذه الخطوات تأتي كإجراءات مؤقتة لضمان أمن إسرائيل، وفق خليل.

في المحصلة، ثمّة تحول لافت وهائل في موازين القوى الإقليمية يؤشر إلى إعادة تشكيل التحالفات والتوازنات في الشرق الأوسط، مع استمرار مراقبة التطورات عن كثب من قبل القوى الدولية والإقليمية. ومع الضغوط الأمريكية والأوروبية على إيران للحدّ من نفوذها الإقليمي، فإنّ مستقبل نفوذها يبدو غامضاً في المنطقة. فيما تواجه إيران أزمة اقتصادية خانقة واحتجاجات داخلية متزايدة، ممّا دفعها إلى تقليل إنفاقها العسكري في الخارج. وبحسب تقارير غربية، فإنّ الانهيار الاقتصادي في إيران أرغمها على تقليص دعمها المالي للميليشيات التابعة لها في سوريا والعراق ولبنان. من هنا استغلت تركيا وروسيا تراجع الدور الإيراني لتعزيز مصالحهما في سوريا. 

وبما أنّ حزب الله اللبناني يعتمد بشكل أساسي على خطوط الإمداد القادمة من سوريا، فإنّ تراجع النفوذ الإيراني هناك يعني تقليص الدعم العسكري واللوجستي للحزب. وقد بدأت تظهر بوادر هذا التأثير في لبنان، حيث تواجه الميليشيات ضغوطاً متزايدة على المستويين السياسي والعسكري. والمؤشرات كافة تؤكد أنّ نفوذ طهران أصبح في أضعف حالاته منذ بدء الأزمة السورية. ومع استمرار الضغوط الإقليمية والدولية  قد تجد طهران نفسها مضطرة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها الإقليمية، خاصة في ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية المتدهورة داخل إيران نفسها.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية