"الحزب"… نحن أكبر من لبنان!

"الحزب"… نحن أكبر من لبنان!

"الحزب"… نحن أكبر من لبنان!


17/02/2025

أنطوني جعجع

“حزب الله” لا يريد قيام دولة في لبنان سواء كانت دولة قوية أو دولة صورية، ولا يريد أي عقيدة لا تكون عقيدته ولا أي محور لا يكون محوره ولا أي سلاح لا يكون سلاحه، ولا يريد جيشاً لا يكون من مجاهديه أو جيشاً يمكن أن يكون بديلاً ذات يوم.

لنعترف من دون حاجة الى أدلة وشهود، بأن “حزب الله” اعتاد، في مدى السنوات العشرين الماضية، وتحديداً بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، أن يستقوي على الدولة، متى وجدت، لا أن يستقوي بها، وأن يلغيها لا أن يذوب فيها، معتبراً نفسه أكبر من هذا البلد لا بل الأحق في ادارته وامتصاص ثرواته وكتابة تاريخه الجديد.

ولنعترف أيضاً بأنه اعتاد أن يكون مديناً بكل شيء للجمهورية الاسلامية في ايران، لا بل جزء من دورها وطموحاتها وأحلامها، ومكرّساً الضاحية الجنوبية مرجعاً وحيداً منه تنطلق قرارات الحرب فقط، وترسم خرائط الطرق ويصنع الرؤساء وتتشكل الحكومات وربما تحصى الأنفاس.

ولنعترف أيضاً، بأنه لم يحفظ في البدايات من أقوال الامام موسى الصدر الا شعاره الشهير: “السلاح زينة الرجال”، ولم يحفظ من حسن نصر الله الا صرخات: “هيهات منا الذلة”، ولم يحفظ من التركيبة اللبنانية المتنوعة الا هتافات: “شيعة شيعة شيعة”، ولم يجد في كل جلسات الحوار ما يعرضه على الطاولات الا واحداً من أمرين: اما المسدس واما الباطنية.

وليس في هذا العرض أي مبالغة أو افتراء، اذ إن كل شيء في أداء “حزب الله” بعد هزيمته في الجنوب، يؤكد أن جلّ ما كان يعمل له ويروّج له لم يكن القضاء على اسرائيل بل السيطرة على لبنان، تحت شعار “المقاومة والتحرير”، وتحويله الى الدعامة الأساسية والأكثر فاعلية وانتشاراً للهلال الشيعي من جهة والعالم الشيعي من جهة أخرى.

فالذين نزلوا الى الشوارع أول من أمس للمرة الثانية في أقل من شهر، تقصدوا أن يبعثوا بغير رسالة في كل الاتجاهات، ومنها رسالة الى الرئيس جوزاف عون تحذر من مغبة الاضطلاع بدور البطل، وثانية الى الرئيس نواف سلام تحذره من الاضطلاع بدور السني الأول أو الأقوى في البلاد، وثالثة الى الجيش تحذره من التعايش مع الانطباع الذي يعطيه الحق في فرض الأمن أو القدرة على فرضه، ورابعة الى اللجنة التي تصوغ البيان الوزاري تحذرها من أي محاولة لسحب كلمة “المقاومة” من التداول، وخامسة الى تيار “المستقبل” تحذره من أي محاولة للنهوض مجدداً في الشارع الاسلامي المعاكس، وسادسة الى “القوات اللبنانية” وكل فريق سياسي معارض يؤمن بأن العصر الأميركي في لبنان يمكن أن يكون فاعلاً أو يمكن أن يعمر طويلاً.

وما يحيّر المراقبين أمام مشاهد الاطارات المحترقة في شوارع لبنان، أن “حزب الله” لا يزال يؤمن، على الرغم من واحدة من أقسى الهزائم لا بل أبشع الخروق التي تصيب ركناً عسكرياً عربياً منذ العام ١٩٤٨، بأن ما جرى لم يكن هزيمة ولا نكبة ولا نكسة ولا حتى اخفاقاً، بل مجرد خطأ تكتيكي لا يؤثر سلباً في المشروع العقائدي الكبير، ولا يضطره أبداً الى التعامل معه كفريق مكسور يجلس في المقاعد الخلفية أو يلعب دور الشريك من جهة أو دور المستجدي من جهة ثانية أو أي دور لا يشبه أبداً دور الفيصل في كل شاردة وواردة خصوصاً تلك التي تتعلق بأمرين: بناء دولة تخرجه من الشارع واحتكار سلاح يسحبه من ترساناته، معتبراً أن أي أمر خارج هذين الخطين الأحمرين قابل للنقاش في مكان والابتلاع في مكان آخر.

وليس سراً، أن رجال حسن نصر الله، هم الذين قالوا إن الكتب المقدسة يمكن أن تلغى لكن ليس سلاح “حزب الله”، وهم الذين قالوا لا مكان لأي رئيس في بعبدا لا يكون من اختيارهم مذكرين بما أصاب بشير الجميل، وهم الذين اعتبروا “السابع من أيار” يوماً مجيداً، وهم الذين منعوا أو عرقلوا أي انفتاح رسمي على أي دولة لا تكون من دول المحور الممانع، وهم الذين اعتبروا تعزيز الجيش خطراً يجب تطويقه في أفضل الأحوال أو منعه في أسوأ الأحوال، وهو ما حدث عندما ساهمت تهجمات حسن نصر الله على المملكة العربية السعودية في سحب ثلاثة مليارات دولار تبرعت بها الرياض لتسليح المؤسسة العسكرية الشرعية.

وانطلاقاً من كل ما تقدم وهو غيض من فيض، يمكن أن يفهم المرء الأسباب التي تجعل “حزب الله” في موقع المتفلت من أعصابه ومنطقه وتوازنه، وتدفعه الى تحركات متهورة واستفزازية تقرّبه من نارين: نار الصدام مع الجيش الذي يحظى بدعم العالمين الغربي والعربي اضافة الى دعم لبناني قلّ نظيره، ونار الوقوع في حرب أهلية متى توافر الفريق الآخر القادر على المواجهة. “حزب الله” يحاول من خلال ما فعله على طريق المطار ومناطق أخرى، الظهور بمظهر الفريق الذي تقع على أكتافه مسؤولية المواجهة مع اسرائيل، وأن أي فريق آخر سواء كان الجيش أو أميركا أو العهد الجديد، لا يمكن أن ينجح لا في تحرير الأرض ولا في صون السيادة، متناسياً أن الأرض المحتلة التي يتحدث عنها هي الأرض التي هزم فيها، وأن السيادة التي يتحدث عنها هي السيادة المنتهكة التي لاحقته من الجنوب الى البقاع مروراً بالضاحية وصولاً الى الشمال والعمق السوري.

لا يختلف اثنان على أن الحزب، يعرف في قرارة نفسه أنه لم يعد قادراً على اقناع الناس بنظريات توازن الرعب وقوة الردع وسواها من الشعارات، ولا اقناعها بأنه سيكون قادراً يوماً ما على تغيير المعادلات التي رسختها اسرائيل في الجنوب وغزة والمنطقة، ولا على اعادة بشار الأسد الى الحكم في دمشق ولا على فتح المعبر السوري الذي يقوده الى ايران ذهاباً واياباً، ولا التلطي خلف الامام خامنئي في مواجهة الرئيس دونالد ترامب في واشنطن.

انه الحصار المطبق الذي يحاول عبثاً الخروج منه بأي ثمن بتحريض هائل من ايران التي تؤمن بأن لا عودة الى الهلال الشيعي المتماسك الا من خلال البوابة اللبنانية وتحديداً من بوابة “حزب الله” الذي يعمل بلا كلل، لتهشيم الحكم الجديد في بيروت في مهده، وإرباك الحكم الجديد في دمشق وفي مهده أيضاً.

والسؤال هنا هل ينجح في ذلك؟ والجواب نعم في حالتين: الأولى اذا تخلت الولايات المتحدة عن أمن اسرائيل وهذا أمر غير وارد على الاطلاق، والثانية اذا تميز حكم الثنائي عون – سلام بالتردد والخوف وهو أمر يمكن أن يكون وارداً في حالتين: الأولى اذا تمنع عن تطبيق القرار ١٧٠١ بكل مندرجاته وتعامل مع الجيش على أنه شرطي يراقب الحدود ويفتح الطرقات، وهو ما يحصل الآن، والثانية اذا تأخر في بناء محور لبناني – عربي – دولي يتحصن خلفه ويقطع الطريق أمام انتعاش محور الممانعة والعودة تدريجاً الى ما قبل الثامن من أكتوبر.

الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس عائدة الى لبنان في الأيام القليلة المقبلة وفي جعبتها قراران، الأول أن محاولات التسلح في بيئة “حزب الله” وبطء الانتشار العسكري اللبناني يحتمان على اسرائيل المرابطة في بعض المواقع الاستراتيجية في الجنوب، والثاني أن على لبنان الرسمي أن يتعايش مع واقعين: الأول أن الحزب لن يقوم من تحت الأنقاض ولا حاجة بعد الآن الى خشيته، والثاني أن الرئيس ترامب مصمم على تحويل ايران اما الى دولة فاشلة من خلال عقوبات صارمة، واما الى دولة مكسورة لا مخالب لها ولا أذرع ولا حلفاء.

انه العصر الأميركي الذي يتعامل معه “حزب الله” والعهد معاً بخفة ظاهرة، الأول من خلال مكابرة لم تعد تجدي في أي مجال أو مكان والثاني من خلال فوبيا متجذرة لا يصدق أنها انحسرت الا اذا وضع اصبعه كما فعل توما ذات قيامة.

في اختصار، يجب أن نؤمن بأن عصر ايران في لبنان انتقل من الانتصار الى الانكسار، وبأن كل ما يفعله “حزب الله” في الشوارع ليس الا تنفيسة يقررها له من تبقى من أركانه، وأن خيار المكابرة الذي اختاره سيقوده الى واحد من أمرين: اما الى جولة جديدة مع اسرائيل تنقله من هزيمة بالنقاط الى هزيمة بالضربة القاضية، واما الى مصير يشبه مصير غزة، أي شعب لا يجد مسكناً له أو أرض معروضة للبيع أو للإيجار.

جراند إب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية