مبصر وحيد بين العميان... اللا منتمي وجدل الاختيار بين النور والظلام

مبصر وحيد بين العميان... اللا منتمي وجدل الاختيار بين النور والظلام

مبصر وحيد بين العميان... اللا منتمي وجدل الاختيار بين النور والظلام


26/12/2024

في واحدة من روائع الأدب العالمي، يُلخص لنا جزرج ويلز واحدة من أخص سمات الجنس البشري، وهي التعامل مع الفرد "اللّا منتمي"، حيث دائماً هنالك واحد من أفراد مجتمع ما، يجنح بفكره وخياله بعيداً، يعتقد في شيء ما ورائي، أو يُلهم بأفكار مختلفة، أو يتلقى رؤى غامضة، أو يُحارب إرثاً عقيماً، ويحاول توطين نباتات الحكمة والمعرفة، وزراعة النور في عقول مطوقة بالجهل. هنالك دائماً ذلك الواحد، وهذه القصة موجودة دائماً في كل تجمع إنساني، في كل الأزمنة والحضارات، وفي أيّ تجمع بشري مهما كانت بساطته، إنّها قصة ذلك الواحد الذي يعزف منفرداً بعيداً عن قبيلته، إنّها قصة النبي والولي والعالم والثائر والمُفكر والمنّور، كل الذين حملوا مشاعل النور على درب البشرية الطويل، وهنالك دائماً الحرب ضده.

تبدأ قصتنا بمغامر يسقط (1000) قدم تحت الأرض، ليجد نفسه في جزيرة معزولة وسكانها قروناً عديدة، أصاب عيونهم مرض غامض، أضعف أبصارهم شيئاً فشيئاً، حتى أصابهم العمى الكُلّي بعد عدة أجيال، وفي أجيال لاحقة ضمرت الجفون وأصبحت العيون الكليلة غائرة في محاجرها، وتبدل عالمهم، ونبذوا كل معرفة لم يستطيعوا أن يقبضوا عليها بالسمع واللمس، واعتبروا بقايا المعارف المروية عن الأسلاف من أزمنة الرؤية هرطقات.

مبصر وحيد بين العميان

يهبط عليهم نينوز الشاب الآتي من عالم البصر والنور، والذي يملك حاسة إضافية بكل ما لأهمية حاسة البصر من دور في رؤية العالم وجمع المعارف، مُبصر وحيد في بلد العميان، لا بدّ أن يكون ملكاً، إنّ حاسة زائدة في الإنسان تعني معرفة أعمق وقوة أكبر، لكنّ ما حدث لنينوز وسط العميان مُختلف. إنّ المعرفة التي وفرها له البصر جعلته يُتهم بالخرف وبضعف العقل، وإنّ ما يصفه ولا تغطيه حواس العميان، يوضع كله في نطاق الدجل، وفعل "أرى" نفسه جعلهم يصفونه بالخبل، بل إنّ الأمر انتهى بأنّ نينوز المخلوق الأرقى يُرى كمخلوق أقلّ تطوراً.

إنّ اللّا منتمي المُنفرد مهما كانت جسارته وثقته في وارداته، لا يملك أمام طُغيان العوام من أمره شيئاً، فاللّا منتمي مُستلب أمام طُغيان الكثرة المرتكنة إلى موروثها، ورغم أنّك تقرأ قصة تنتمي إلى جنس الأدب، سترى خيال عيسى ومحمّد وجاليلو وكوبرنيكوس وهيباتيا، يُطلون من بين السطور، سترى أزمة كل مُثقف، وهَمّ كل صاحب رسالة. 

كانت للرمزية المفتوحة التي طعمها لكل نواحي القصة إسقاطات واسعة وشاملة وذكية، فجعله من نينوز مغامراً؛ إشارة إلى خصوصية روحية لكل متنور على مر أزمنة الإنسانية، وجعله يسقط (1000) قدم فيفاجأ بقوم معزولين، إشارة إلى الواردات العلوية أو السماوية المُبتعثة لمن هم أدنى، وإشارة إلى فرق المعرفة الهائل الذي أتى به نينوز لأهل الجزيرة. 

كما أنّ انقلاب عالم أهل الجزيرة وجعلهم النهار للنوم والليل للعمل إشارة إلى ثورة التصحيح التي يأتي بها المخلصون، كما أنّ تصحيح اعتقادهم حول السماء التي يعتقدون أنّها سقف صخري للعالم تنزل منه الثلوج والأمطار، وتصحيح اعتقادهم في الكائنات ذوات الأصوات المغردة، التي لا يستطيعون القبض عليها، بأنّها ملائكة، ما هي إلّا طيور، هي المعرفة التي  يقدّمها العلماء للجهال المتمترسين حول معارفهم البالية.

لمّا حاول نينوز أن يُثبت قدراته أمامهم، وفشل، فكر أنّه لا طريقة باقية غير العراك، وحده سيثبت لهم أنّه يمتلك ما يفوقهم، ورغم أنّ العمى جعلهم يطورون قدرات سمعية عالية ويعتمدون على اللمس بشكل أكثر، ويستطيعون توقع حركات نينوز وقت القتال، إلّا أنّ نينوز كأيّ رجل شريف، لم يستطع أن يتوجه بالأذى لرجل أعمى، وتراجع عن الإجهاز على من هاجمه، وهي القيود الأخلاقية نفسها التي يصنعها اللّا منتمي لنفسه، حتى في الوقت الذي يُضيق عليه العوام الخِناق، وحتى حين طردوه ونبذوه حتى كاد أن يموت جوعاً. إنّ هذا القيد الأخلاقي هو الذي جعل الأنبياء والأصفياء والعلماء يشفقون على الإنسانية، حتى وهم يتلقون عذاباتها.

مساومة تاريخية

وكأيّ نبي يصحبه حواريون، وكأيّ ولي يتبعه دراويش، وكأيّ عالم يُنصت له من في عقولهم سعة، وكأيّ فنان يُشغف به كل ذي حس رهيف، أنصت لنينوز عدد صغير ممّن كانت عيونهم الكليلة أقلّ غوراً من البقية، وألفته فتاة، أهداب عينيها أكثر وضوحاً، وكما في كل زمن يُقبل على الدعاوى الجديدة والرسائل الجديدة من كان لديهم استعداد مبدئي، أُخذت الفتاة بالأوصاف والتعابير التي ألقاها على مسامعها نينوز، أوصاف تعتمد على الرؤية في وصف الكون والوجود، ورغم أنّها منبوذة من الناحية الجمالية في قريتها، التي تعتمد في تقديرها للجمال على النعومة، وربما مرجع هذا هو حاسة اللمس التي اعتمدوا عليها في غياب البصر، فقد كانت أقلّ نعومة من سيدات القرية، ولها أهداب طويلة متحركة، لكنّ نينوز المُبصر رأى فيها جمالاً استثنائياً، أو بالأحرى وجد فيها الرفيق الذي أعطاه مسامعه، فتلا عليه آياته مُصدقاً، أعطته أذنها صاغية فأعطاها عينيه. وحين أراد أن يُكمل وجوده الوحيد، ويأنس بروح تألفه، كان الامتحان قاسياً، فقد اشتُرط عليه لكي يتزوج من فتاته، أن يقوم بإجراء عملية يُزيل فيها عينيه، هذه الزوائد في وجهه التي تُحدث الخبال في عقله، والتي تُهدد عرق عائلة حبيبته.

كان الشرط أن يتخلى عن رؤية السماوات والنور، ويدخل إلى عالم الظلام، ويقنع بأنّ العالم ينتهي بسقف صخري، كان الشرط ألّا يرى القمر والنجوم والأفق والنبع والورود، ولا وجه حبيبته أو يديها الحانيتين، كان الخيار إذاً ما بين الحب وما بين فردانيته. ما بين أن يظل منبوذاً، أو أن يصل إلى رتبة مواطن مرضي عنه، إنّها المساومة نفسها التي عُرضت على الرجال الذين صنعوا حبات نور أبدية الإضاءة في ظلام البشرية، إمّا أن يتنكروا لفردانيتهم، وإمّا العقاب والحرمان، لم يختلف ردّ نينوز عن ردّ رجل يؤمن بنفسه، فقد هرب قبل وقت إجراء العملية، وترك خلفه الحب والألفة والرضا الاجتماعي، وآثر أن يفتح عينيه على كل إلهام ممكن.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية