خطاب شعبوي في البرلمان يتعارض مع توجه قيس سعيد

خطاب شعبوي في البرلمان يتعارض مع توجه قيس سعيد

خطاب شعبوي في البرلمان يتعارض مع توجه قيس سعيد


01/12/2024

مختار الدبابي

تعمل الدولة التونسية على تهدئة الخطاب وتجاوز مرحلة الشعارات التي سيطرت خلال سنوات ماضية وأعاقت تفكير المؤسسات الحكومية وخططها للوصول إلى معالجات. وكانت فوضى من الشعارات القديمة، سياسية وحقوقية ونقابية، ما جعل الناس تكفّر بالديمقراطية والانتخابات وحرية الرأي، وكل القيم التي كان يفترض أن تدافع عنها ثورة 2011، لكن الأيديولوجيا قتلت كل ذلك في المهد.

الآن يتكرر الأمر، ولكن بمنوال مختلف في الغطاء ومشترك في المضمون. وفيما تركز مؤسسات الدولية على وضع الخطط اللازمة لتقليص المديونية وإعادة بناء دور أكثر فاعلية للدولية في توفير الخدمات الضرورية من صحة ونقل وتعليم ودعم اجتماعي للفئات الضعيفة، فإن موجة الشعارات تطل من جديد تحت غطاء دعم مسار الرئيس سعيد، وهي تحقق نتائج عكسية تضر بقيس سعيد نفسه.

تأتي الشعارات هذه المرة من البرلمان، حيث يطغى خطاب شعبوي يستبطن العداء الطبقي لأيّ فئات ناجحة. بعض البرلمانيين يجدون أن دورهم هو الانتقاد والهجوم، وليس مساعدة الرئيس سعيد على البناء وتأمين مناخ تشريعي ملائم لذلك. هل من مصلحة قيس سعيد الهجوم على خريجي الجامعات الذين هاجروا بعد أن استحال عليهم الحصول على عمل في البلاد بسبب مخلفات أزمة مركبة بينها ما هو سياسي يتعلق بفشل طبقة ما بعد 2011، وما هو اقتصادي بسبب فشل المنوال التنموي، وما هو اجتماعي من خلا صعود المطلبية إلى أقصى مستوى أعجز الحكومات المتعاقبة عن فعل أيّ شيء لحله. وزادت عليها جائحة كورونا بتعقيدات ما تزال البلاد تعاني منها إلى الآن.

ما معنى أن يطالب بعض النواب، أو يعدّون مبادرة لعرضها على المجلس، للمطالبة بفرض ضريبة على خريجي الجامعات الذين يعملون بالخارج تحت عنوان استرجاع تكاليف التعليم والتدريب في بلد يرفع شعار مجانية التعليم. يقول النائب بالبرلمان فخر الدين فضلون “يجب على التونسيين العاملين بالخارج دفع 600 دينار شهريا لفائدة الدولة التونسية لمدة 5 سنوات.”

ماذا يمكن أن يفهم من هذه الرسالة الملغومة؟ هل هناك صراع بين اختصاصات التعليم، خاصة أن النواب الكثير منهم من شعب مهنية غير مطلوبة في الداخل والخارج؟ سيبدو الأمر وكأنه انتقام من بعض الاختصاصات التي تجد حظوة في العمل بالخارج مثل المهندسين والأطباء وبقية المهن الصحية الأخرى المطلوبة في أوروبا على وجه الخصوص، وكأن النواب يقولون لهؤلاء الخريجين ابقوا في تونس لتشتغلوا برواتب دنيا، إن وجدتم عملا، ولا داعي للهجرة.

كان يفترض أن يشيد النواب بمستوى التعليم في تونس، الذي نجح في تخريج كفاءات تجد الحظوة في الخارج، وهو ما يعني أنه تعليم جيد ويتماشى مع التطورات، ما يستدعي ضخ المزيد من الأموال لتدعيمه ليحافظ على جودته ويقدر على المنافسة الخارجية. مع العلم أن نظام التعليم في الدول المتطورة تقف مهمته عند تخريج الكفاءات ويترك لها مهمة البحث عن العمل في مختلف أصقاع الدنيا.

هناك بعض النواب من يحمل على القطاع الخاص والبنوك بوجه أخص لكونها لا تدعم بما يكفي توجهات الرئيس سعيد، وخاصة خيار الشركات الأهلية. أن تختلف البنوك أو غيرها من القطاعات في تقييم أداء وفرص نجاح الشركات الأهلية، فهذا حقها خاصة أنها هي التي ستدفع التمويلات وتريد ضمانات في ذلك، لكن لا يعني هذا أنها عدوّ أو متآمر. كما أن موقفها لا يعني بأن الشركات الأهلية لا تصلح وليست خيارا ممكنا. كل المقاربات الجديدة تحتاج إلى وقت للإقناع بفاعليتها خاصة إذا وُفقت في تقديم نماذج للنجاح.

يفترض أن النواب حين يظهرون في الإعلام، ويشاهد الناس مداخلاتهم في البرلمان، يستشعرون حقيقة أنهم يمثلون سلطة ذات وزن، وقيمتها في أنها تراقب السلطة التنفيذية وتحد من غلواء خياراتها وترشيد مواقفها وليس العكس.

ما معنى أن يقود نواب في البرلمان، وهم المنتخبون لإحداث التوازن مع السلطة التنفيذية، الحملة على حرية الرأي على مواقع التواصل ويطالبون بتشديد العقوبات على النشطاء والمؤثرين. يفترض أن هذا دور السلطة، وأن دور البرلمان هو الوقوف ضد أيّ مشاريع قوانين يرى فيها مسّا من حرية الرأي أو مصادرة لفضاءات باتت متنفسا للناس. تحتاج شعبوية البرلمان إلى خطاب مطمئن من الدولة خاصة بالنسبة إلى خريجي الجامعات الذين غادروا بحثا عن شغل أو الذين يفكرون في المغادرة وينتظرون فرصتهم حتى لا يتحول الأمر إلى تخويف.

مع الإشارة إلى أن البرلمان يحتمي بالرئيس سعيد ويقول إنه يعبّر عن أفكاره وعن مطالب الشعب التونسي، وهذا فيه مبالغات كثيرة، فالرئيس سعيد ليست له مشكلة مع الشباب المهاجر، كما أنه لا يفكر بعقلية الجباية وجمع الأموال كيفما اتفق، هناك قوانين توضع ويتم تطبيقها لتحصيل الضرائب وفق مسارب قانونية وضعت في قانون المالية، تخضع للجدل نعم، لكنها لا تستهدف فئة بعينها.

خطاب بعض البرلمانيين يتعارض مع توجهات قيس سعيد حتى وإن بدا حريصا على مصلحة الدولة وهيبتها. ومن المهم أن يفرّق البعض بين حماسه لقيس سعيد في صراعه مع المجموعات السياسية التي كانت تحكم قبل 25 يوليو 2021، وبين إسقاط هذا الحماس على قناعات شخصية لبعض النواب في مقاربة القضايا الاجتماعية المختلفة. أن يكون نائب ما ضد “ثراء” الأطباء أو البنوك، أو ضد ما ينشر على مواقع التواصل، فهذا لا يعني أنه يعبّر عن الدولة وتوجهاتها، وأنه يعيد فوضى البرلمانات السابقة من خلال إطلاق التصريحات خير المدروسة.

جاء البرلمان الحالي ضمن نظام رئاسي، ولذلك سيكون عليه أن يحصر اهتمامه في دراسة مشاريع القوانين والمصادقة عليها أو رفضها والتعاون مع الحكومة، وإلا وجد نفسه في صدام مع المنظومة التي أفرزته.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية