
تمتلك أشجار البندق قدرة فائقة على الحياة في الأجواء الباردة، حيث تنمو بشكل بري في الغابات الجليدية، الأمر الذي جعلها مع الوقت رمزاً للحكمة والإلهام، وشغلت حكاياها حيزاً كبيراً من الأساطير القديمة.
وفي خضم الصراع الدموي في أوكرانيا، تخلّت شجرة البندق الروسية عن رمزيتها، لتغدو اسماً لسلاح فتاك جديد، أربك المشهد العسكري، ودفع حلفاء أوكرانيا إلى إعادة ترتيب مفردات المعركة.
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتن قد أعلن الخميس الفائت أنّ قواته ضربت أوكرانيا بصاروخ باليستي جديد متوسط المدى. وقال بوتن في خطاب متلفز: إنّ روسيا أجرت اختباراً في ظروف قتالية لأحد أحدث أنظمة الصواريخ الروسية متوسطة المدى، أطلق عليه اسم (أوريشنيك)، ويعني شجرة البندق باللغة الروسية.
وكانت مدينة دنيبرو بوسط أوكرانيا هي الهدف الأول لوابل شجرة البندق في وقت مبكر من صباح الخميس الماضي، وقد اتهمت القوات الجوية الأوكرانية روسيا باستخدام صاروخ باليستي عابر للقارات.
بوتن وصف أوريشنيك بأنّه "صاروخ باليستي، ذو تكوين فرط صوتي غير نووي"، قائلاً: إنّ ّالاختبار كان ناجحاً وأصاب هدفه بدقة. وأكّد الرئيس بوتن أنّ الدفاعات الجوية لا تستطيع التصدي لأوريشنيك الذي يهاجم بسرعة 10 ماخ، أو (2.5-3) كيلومتر في الثانية. وأكد أنّ "أنظمة الدفاع الجوي الحديثة لا تستطيع اعتراض مثل هذه الصواريخ". وأضاف: "حتى اليوم لا توجد وسائل لمواجهة مثل هذا السلاح...، هذا مستحيل".
ووصف شهود عيان الغارة التي وقعت يوم الخميس الفائت على دنيبرو بأنّها غير عادية، وأدّت إلى وقوع انفجارات استمرت مدة (3) ساعات متواصلة.
ما هو أوريشنيك ؟
بحسب (بي بي سي)، زعمت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية أنّ الصاروخ أوريشنيك هو نوع جديد من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، المعروفة باسم "كيدر". وقالت إنّه يتحرك بسرعة (11) ماخ، واستغرق (15) دقيقة للوصول من موقع الإطلاق، على بعد أكثر من (1000) كيلومتر (620 ميلاً) في منطقة أستراخان في روسيا. والصاروخ كان مجهزاً بـ (6) رؤوس حربية، كل منها يحمل (6) صواريخ فرعية.
وبحسب وصف بوتن، فإنّ الصاروخ يقع على الحافة العليا لتعريف السرعة فرط الصوتية، وهو من النوع فائق السرعة، الأمر الذي يجعل إصابة الأهداف أكثر دقة؛ لأنّه كلما زادت سرعة الصاروخ، وصل إلى الهدف بشكل أسرع، وكلما زادت سرعة وصوله إلى الهدف، قلّ الوقت المتاح للطرف الآخر المدافع للتصدي له.
ويصل الصاروخ الباليستي، عادة، إلى هدفه باتباع مسار قوسي إلى الغلاف الجوي، ومسار مماثل إلى أسفل نحو وجهته، وتزداد السرعة بسبب الطاقة الحركية، وكلما زادت هذه الطاقة الحركية، زادت خيارات الصاروخ وقدرته على المناورة، والاتجاه نحو الهدف، ممّا يجعل اعتراضه بوساطة أنظمة الصواريخ أرض ـ جو، مثل نظام باتريوت الدفاعي الأمريكي، أمراً بالغ الصعوبة.
من قبل، نجحت أوكرانيا في اعتراض نحو 80% من الصواريخ التي أطلقتها روسيا، بفضل نظام باتريوت الأمريكي، لكنّ الفشل الذريع للتصدي لأوريشنيك يؤكد سرعته الفائقة، لكنّه بالضرورة ليس من النوع العابر للقارات، أو كما يقول الخبير العسكري الروسي إيليا كرامنيك لصحيفة (إزفستيا) الموالية للكرملين: إنّ الصاروخ الجديد، الذي ظلّ تطويره سرياً حتى الآن، من الصواريخ متوسطة المدى. وأضاف: "من المرجح أنّنا نتعامل مع جيل جديد من الصواريخ الروسية متوسطة المدى، بمدى (2500-3000) كيلومتر (1550-1860 ميلاً)، ويحتمل أن يمتد إلى (5) آلاف كيلومتر (3100 ميل)، ولكنّه ليس عابراً للقارات". لكنّ ذلك يؤدي، على أيّ حال، إلى وضع أوروبا بأكملها تقريباً ضمن نطاق التهديد. خاصّة أنّ أوريشنيك مزود برأس حربي منفصل، مزود بدوره بوحدات توجيه فردية. وهو ربما يكون نسخة مصغرة من نظام صواريخ "يارس-إم"، وهو صاروخ باليستي عابر للقارات.
وبحسب (بي بي سي)، أكد الخبير العسكري دميتري كورنيف أنّ صاروخ أوريشنيك ربما يحاكي صواريخ إسكندر ذات المدى الأقصر، والتي تستخدم بالفعل على نطاق واسع في أوكرانيا، ولكنّه مزود بمحرك من الجيل الجديد.
وقال المحلل العسكري فلاديسلاف شوريجين لصحيفة إزفستيا: إنّ منظومة أوريشنيك قادرة على التغلب على أيّ أنظمة دفاع صاروخي حديثة موجودة. وأضاف أنّه قادر على تدمير المخابئ المحمية جيداً، على أعماق كبيرة، دون استخدام رأس نووي.
وبدوره، قال جاستن كرومب، الرئيس التنفيذي ومؤسس شركة الاستشارات المتعلقة بالمخاطر "سيبيلين"، لـ (بي بي سي): إنّ الصاروخ الجديد لديه القدرة على تحدي الدفاعات الجوية الأوكرانية بشكل خطير. وأضاف أنّ "الصواريخ الباليستية قصيرة المدى التي تمتلكها روسيا تشكل أحد التهديدات الأكثر قوة لأوكرانيا في هذا الصراع. ومن شأن الأنظمة الأسرع والأكثر تقدماً منها أن تزيد من هذه التهديدات بمقدار كبير"، الأمر الذي يغير إلى حد بعيد من معادلة الصراع في حرب الجليد.
تهديد بالمزيد من الصواريخ وردود أفعال متباينة
الرئيس الروسي استغل الصدمة الأولى لدى الحلفاء، وقال إنّ روسيا لديها مخزون هائل من هذه الصواريخ الجديدة "جاهزة للاستخدام"، وذلك بعد يوم من إطلاق بلاده أوريشنيك على مدينة دنيبرو الأوكرانية.
من جانبه، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي حلف الناتو إلى "رد جاد"؛ حتى يشعر بوتن "بالعواقب الوخيمة لأفعاله". وأكد أنّ بلاده طلبت من شركائها الغربيين أنظمة دفاع جوي حديثة من أجل التصدي للخطر الجديد.
وانتقد زيلينسكي الصين أيضاً، بسبب ردها على صاروخ موسكو الجديد، بعد أن قالت وزارة الخارجية الصينية: إنّ جميع الأطراف يجب أن "تحافظ على الهدوء وتمارس ضبط النفس"، ووصف التصريحات الصينية بالاستهزاء.
وبحسب وكالة (إنترفاكس) الأوكرانية للأنباء، تسعى كييف إلى الحصول على منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية عالية الارتفاع (ثاد)، أو تحديث أنظمة الدفاع الصاروخي (باتريوت) المضادة للصواريخ الباليستية.
رئيس الوزراء البولندي دونالد توسك علّق على هذا التحول النوعي الخطير قائلاً: إنّ الحرب دخلت مرحلة حاسمة، مع وجود خطر حقيقي لاندلاع صراع عالمي.
ومن جانبه، قال رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان: إنّ الغرب يجب أن يأخذ تحذيرات بوتن "على محمل الجد"؛ لأنّ روسيا "تبني سياساتها في المقام الأول على القوة العسكرية".
كوريا الشمالية التي دخلت ضمن معادلة الصراع، حذر زعيمها كيم غونغ أون من أنّ التهديد باندلاع حرب نووية "لم يكن أبداً أكبر من هذا". واتهم الولايات المتحدة باتباع سياسة "عدوانية ومعادية" تجاه بيونغ يانغ.
ويمكن القول: إنّ قيام الرئيس الأمريكي جو بايدن بإعطاء أوكرانيا الإذن باستخدام صواريخ أتاكمس طويلة المدى، ضدّ أهداف داخل روسيا، رداً على استخدام موسكو للقوات الكورية الشمالية، دفع الصراع نحو منعطف شديد الخطورة، حيث يحاول طرفا الصراع تأمين ميزة في ساحة المعركة، قبل أن يصبح دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة في كانون الثاني (يناير) المقبل.
ويبدو أنّ الدفاعات الأوكرانية أصبحت في طريقها نحو الانهيار، في ظل التحركات الروسية العنيفة، وخاصّة الضغط الهائل على جبهة كورسك، التي يحاول بوتن تصفية الوجود الأوكراني فيها بأيّ ثمن، قبل الجلوس إلى مائدة التفاوض حول الحل النهائي.