الجماعة الإسلامية بمصر واقعها ومستقبلها (1)

الجماعة الإسلامية بمصر واقعها ومستقبلها (1)

الجماعة الإسلامية بمصر واقعها ومستقبلها (1)


24/07/2024

ماهر فرغلي

منذ نشأت الجماعة الإسلامية في السبعينات من القرن المنصرم، وحتى إطلاقها لمبادرة وقف العنف عام 1997، مثلت رقمًا صعبًا في عمليات العنف الممنهج على الأرض، عسكراتيًا، وكذلك أيديولوجيًا، لأنها الوحيدة بمصر، التي نظّرت للعنف الإسلامي في أبحاث وكتب مرتبة، أدت في النهاية إلى وحدة فكرية منهجية لدى كل أعضائها.

وأصابت عدواها جماعة الجهاد الإسلامي المصرية، التي كان يقودها سيد إمام الشريف، وأيمن الظواهري، فحاكتها في أبحاث وكتب مماثلة، حتى جاءت اللحظة الفارقة، التي أعلنت فيها عن مراجعات وتصحيح لكل مفاهيمها، وأيضًا قامت بتدوينها في كتب أخرى، لتكون بذلك الجماعة الأولى، التي تنقلب بشكل كامل على ما أدلجته من قبل.

وهذا ما حاكته جماعات أخرى فيما بعد مثل الجماعة الليبية المقاتلة، لكن الحادث الفارق هو ما بعد وصول الإخوان للحكم، ما أدى إلى صعود صقور التنظيم، حيث تحالفوا مع جماعة الإخوان، وكان نتاج ذلك انقسامها ما بين قيادات بالخارج سلموا أنفسهم بالكامل للإخوان، وخير دليل عى ذلك، حلقات طارق الزمر الأخيرة حول السجون، أو حلقات أسامة رشدي في قناة وطن الإخوانية، وهذا الخطاب الواحد المتناغم مع الإخوان وتنظيمها الدولي، وما بين قيادات بالداخل الذين آثروا الصمت وعدم رفض ما يفعله قيادات الخارج، ولهذا قصة طويلة بدأت من فترة التسعينات.

لقد مثلت فترة التسعينات أعلى مستوى وصلت إليه الجماعة الإسلامية المسلحة المصرية في ممارستها للعنف، فبعد نشأتها قتلت الرئيس المصري الأسبق أنور السادات، وقامت بأحداث دموية راح ضحيتها 114 جندياً أطلق عليها (أحداث تنظيم الجهاد بأسيوط) وبعدها انطلقت إلى أفغانستان، وأدارت من هناك عمليات العنف المسلح، تحت رئاسة شيخها الذي كان مسجوناً بأمريكا عمر عبدالرحمن.

وكانت مرحلة أشد عنفاً قتل فيها عدد كبير من السياح والوزراء، ورجال الأمن، وبعدها استهدفت الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بأكثر من 13 محاولة اغتيال، ثم تحولت في عام 97 إلى وقف العنف، وأطلقت مبادرتها الشهيرة، وعقب الثورة المصرية، بدأت ممارسة العمل السياسي، وأنشأت حزب البناء والتنمية، لكنها حين تم عزل الإخوان عن الحكم، أصبحت مزدوجة الحركة، وحدثت لها تحولات أخرى.

المراحل الثلاث السابقة من التحولات، فضلاً عن غياب أغلب قيادات هذه الجماعة بعد عودتهم للسجون مرة أخرى، أو هروبهم إلى خارج البلاد، بدأت في تحوّل رابع على يد أحد منظريها عاصم عبد الماجد، يدعو فيه للثوةر عن طريق الأمة لا التنظيمات، مع تأكيده على أهمية دور الجماعات في المعادلة، وهذا كله في توقيت علت الأصوات التي أساءت تأويل النص الديني.

واستدعت تأويلاً يحرض على القتل والاغتيال، جراء تأثيرات الظروف السياسية والأمنية، التي حولتهم إلى مطاردين، أو مسجونين، فهل بالفعل حدثت تحولات للجماعة الإسلامية المصرية؟ هل كانت تحولاتها تقلبات تكتيكية بفعل الظروف السياسية المحيطة، دون تغير في الأيديولوجية البناءة داخل التنظيم؟

كان من الواضح أن الجماعة يتنازعها نهجان، الأول هو التغيير الإصلاحي التحتي في قواعد المجتمع، والآخر الفوقي، الذي يريد أن يصل للسلطة من أجل التغيير، لكن الأخير هو من انتصر في النهاية، وأعلن عن فوز عصام دربالة بقيادة الجماعة .

كان في هذه الآونة بسبب ما جرى عام 2011 تغير كل شيء، ودفع الجماعة لأخذ مواقف متعجلة وسريعة، لو خيرت فيها من قبل ما أقدمت عليها مطلقًا، ومنها: العودة لمساجدها القديمة التي أممتها الأوقاف. التحالف مع جماعة الإخوان. التنسيق مع حزب النور السلفي في الانتخابات البرلمانية.

لقد انحازت الجماعة للإخوان بشكل كامل لما وصلت للحكم، وحين تم عزلها منه، دعمت خياراتها، وحتى بعد انخراط الإخوان في عنف واضح، وتشكيل مجموعات سرية مسلحة، وبالرغم من قرب عهدها بمراجعات فكرية، ومبادرة لوقف العنف فى أواخر عهد مبارك، أيضا وقفت على يمينها.

وقامت بإقصاء لرموز مبادرة وقف العنف في الجماعة الإسلامية، أمثال كرم زهدي، وناجح إبراهيم ممن التزموا بمنهجية المبادرة، وفلسفتها الاستراتيجية الحاكمة، وبقي في مشهد قيادة الجماعة الرموز المحسوبة على الفكر الجهادي، مثل عبود وطارق الزمر، وعاصم عبد الماجد، وصفوت عبد الغني، وعصام دربالة، ورفاعي طه، ومحمد الإسلامبولي، وهؤلاء يظهرون.

ويضمرون اختلافات منهجية عميقة، مع فكر ناجح إبراهيم التوافقي التكاملي مع الدولة، ويرفضون حصر دور الجماعة في المجال الدعوي الإصلاحي مع استكمال ومواصلة المراجعة، وصولاً لضبط الأداء والخطاب، في ملفات كثيرة عالقة، على رأسها قضية السلطة، والعلاقة بالحاكم، وبالمؤسسة العسكرية، وبالتيارات الفكرية والسياسية القائمة، وعلى رأسها التيار الناصري.
خرج الإصلاحيون من الجماعة، وسيطر الصقور على التنظيم بالكامل، لذا بدأنا نرى ولأول مرة التباين بين الفريقين، وبينما انتقد زهدي ورفاقه اغتيال الرئيس المصري الأسبق السادات، أبدى قادة الجماعة الإسلامية الحاليين فخرهم بعملية الاغتيال.

رأى قيادات الجماعة الإسلامية الحاليين أن المرحلة تستوجب مؤازرة الاخوان بكل ما يلزم، تحقيقاً لذلك المقصد، وكانت هذه الاشكالية هي أهم وأخطر نقاط الخلاف، فهناك من أكد على فلسفة المبادرة الاستراتيجية الحاكمة ودورها المستدام المستقبلي المنضبط أداءً وخطابًا في سياقه الدعوى والفكرى والاجتماعي، مع إلزام الجماعة منهجيًا بعلاقة استراتيجية تكاملية مع الدولة ومؤسساتها ومع الحكام، وهناك فريق آخر رفض إجراء أي تطوير منهجي وفكري لقضية "الحاكمية"، حيث رأى أن السلطة وستظل هي مناط التغيير الحقيقي.

نتيجة موقف القيادات الحالية للجماعة الاسلامية من قضية "الحاكمية"، واعتناقهم نهج التغيير الفوقي، بزعم أن "المشروع الإسلامي" لن يتحقق إلا بوصول الحركة الإسلامية إلى السلطة، ظهر هذا التناقض الواضح بين ما تعهدوا به في كتب المبادرة.

وبين الممارسة العملية، عند أول اختبار عملي للمصالحة مع الدولة، فعاد من جديد الاستخفاف بالدماء، وعادت نزعة الانتقام والكراهية في مواجهة مؤسسات الدولة، خاصة الأجهزة الأمنية، ولم يعد يهمهم تنامي العنف وتراكم الأحقاد والنزاعات والثارات، كما تعهدوا بعكس ذلك في كتب المبادرة، ليس فقط لأنهم يسعون لاستعادة ما يطلقون عليه "شرعية مرسي".

وما يترتب من كوارث ومفاسد أفدح وأخطر من مفاسد خروجهم على مبارك، نتيجة المستجدات الخطيرة على المشهد الاقليمي والدولي والمحلي، وليس فقط لأنهم شعروا ببعض القوة فغلب الظن عليهم أنهم فى مواسم التمكين وتصفية الحسابات والثأر، انما أولاً لافتقادهم المصداقية مع النفس ومع الآخر، بعدما كتبوا بأيديهم فى السابق "نتصالح حتى لا تتفتت وحدة الأمة وتراق الدماء.

وتضعف مصر فى مواجهة أعدائها الحقيقيين"، وبعدها مباشرة بعد فترة زمنية قصيرة وعند أول ضعف طارئ للدولة ومؤسساتها، يتحالفون على أساس أيديولوجي مع من يسعى لهدم الدولة، وإضعاف مؤسساتها والنيل من استقرارها طمعًا في الحكم وكراسي السلطة، ويسهمون من جديد فى تفتيت وحدة الأمة، وإراقة الدماء، واضعاف مصر في مواجهة أعدائها الحقيقيين.

في حوار لأحد قيادات الجماعة الاسلامية، وأمين عام حزبها "البناء والتنمية"، " ذكر علاء أبو النصر أنهم يعارضون بشدة المراجعات التى قام بها الدكتور ناجح ابراهيم"، وهو يقصد هنا الجانب الأهم من المراجعات ومبادرة وقف العنف بتأصيلها استراتيجيًا وتحصينها علميًا وفكريًا باجتهادات فكرية تفصيلية في قضايا كثيرة عالقة لم تحسم، وبتصحيح فكر "الحاكمية" وتصحيح علاقة الجماعة مع الدولة وأوضاعها في المجتمع بأدوار اجتماعية ودعوية متطورة وبخطاب وأداء منضبط".

صفوت عبد الغني، القائد الحقيقي للجماعة، كتب على صفحته بالفيسبوك: "كلما صدعنا بالحق كاملاً وكلما وقفنا فى وجه الباطل، وكلما أنكرنا مواقف المتخاذلين وفضحنا نفاقهم أو تأويلاتهم الباطلة رفع البعض فى وجوهنا قضية مبادرة وقف العنف، وآثار آخرون قضية المراجعات التى قامت بها الجماعة، لقد ظن هؤلاء جميعاً أن المبادرة والمراجعات معناها ألا تتحدث بالكلية، أو أن تتخلى عن الحق، أو لا تنحاز لنصرته، أو أن تأخذ بالرخص ما حييت، أو أن تنهزم أمام الواقع!
تمت سيطرة جناح الصقور على الجماعة وحزبها، وأصبح الحديث عن قتلى الجماعة في التسعينات ظاهرة شملت كل محافظات مصر، فأغلب العناصر وضعوا صور القتلى، متفاخرين بهم، وصاغوا قصصاً طويلة، وأحياناً غريبة عن موتهم، على سبيل المثال (علاء رجب)، و(أبو العابدين ناصر الشريف) وغيرهم، من قيادات الجماعة بمحافظة أسيوط، كانوا لا يكفون عن الحديث عن قتلى الصدام المسلح، ما دفع عنصر الجماعة عصمت الصاوي، ليكتب: إذا كان للجماعة شهداء، فللدولة شهدائها أيضًا.

اتضح من هذا الحوار أن أزمة الجماعة ليست من القيادات لكنها من أسفل، أي في القواعد، وعموم الأفراد، ولعل أزمة السبعينات والثمانينات، كانت بسبب أن القيادات كانوا من جيل الشباب، وكانت قراراتهم غير مدروسة، ومنها قتل السادات، وأحداث أسيوط، وهو ما اعترفوا به، أما التسعينات فبسبب سيطرة تلاميذهم المتحمسين على الجماعة، واعتناقهم أيديولوجية الصدام.

وتغيير النظام والسلطة من أعلى وليس من أسفل، أما أزمة ما بعد عزل الإخوان، فهي أزمة شاملة، السبب فيها هو جهل أفرادها بالعلوم السياسية، وعدم إجادة الجماعة التعامل مع الإعلام مطلقًا، والأهم هو خلل الرؤية، فقد كانت هناك رؤية قبل المبادرة، ترى علنية الدعوة وسرية التنظيم، والاستعلاء على المجتمع، ثم القفز على السلطة للتغيير الفوقي لكل الدولة، وبعد المبادرة تغيرت الرؤية فأصبحت انكفاء التنظيم على ذاته، ومحاولة إنقاذ أفراده بأي ثمن.

ثم الانفتاح على المجتمع، وجعل الدعوة هي اتجاه فكري عام، والتغيير الاجتماعي للدولة من أسفل القاع، وليس من قمة السلطة للدولة، وعقب 25 يناير وإقالة كرم وناجح أو استقالتهما، أصبح داخل الجماعة رؤيتان، الرؤية القديمة، والرؤية الحديثة، لكن الفريقين آمنا ببقاء الجماعة، ووجوب العمل الجماعي، وتجاوز مرحلة ناجح وكرم، والاستفادة من المرحلة الإخوانية واعتبارها فرصة غير مسبوقة، وإلى حد ما كانت الجماعة فترة حكم الإخوان مواقفها متسقة عن غيرها من التيارات السلفية المتنوعة، رغم وجود بعض الأخطاء. للحديث بقية.

عن "الوطن"




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية