"الإسلاميون الحركيون" والتوجس من المراجعات المنهجية!

"الإسلاميون الحركيون" والتوجس من المراجعات المنهجية!


28/01/2021

حسن المصطفى

"وهل يقبل تيار عون أو حزب الكتائب أو القوات اللبنانية بالنقد الذاتي؟..إنها آفة الأمة". 

كانت تلك رسالة مقتضبة تلقيتها من أحد الأصدقاء، تعليقاً على مقالتي في "النهار العربي"، 22 كانون الثاني (يناير) الجاري، والتي تساءلت فيها: لماذا يرفض جمهور "حزب الله" النقد ‏الذاتي؟

الصديق الذي تجاذبت معه تالياً أطراف الحديث الممتع والمفيد، يشير إلى معضلة اجتماعية وثقافية، تحولت إلى سلوك لدى شرائح واسعة من المواطنين العرب والمسلمين، وهي: رفض النقد، والاعتقاد بالصوابية المطلقة، وعدم الإصغاء للآراء المتنوعة.

قد تكون تلك المشكلة سبب تضخمها، ارتفاع منسوب الخطابات الشعبوية عالمياً، وهي موجات لم تكن الدول العربية ساحتها الوحيدة، بل كان أوضح تجلياتها السلوكيات الإقصائية والعنصرية لدى شريحة واسعة من جمهور الرئيس الإمريكي السابق دونالد ترامب، وجماعات "اليمين المتطرف" في أوروبا، فضلا عن المجموعات الأصولية والإرهابية.

هي عقلية انعزالية، صفائية، رافضة للأغيار، وتعتقد أن الآخر مجرد غثاء، لا قيمة له، ولا ينبغي أن يكون له وجود في المجتمع إلا على الهامش، خادماً مطيعاً، لا أكثر ولا أقل!

لذا، لا تختص هذه الممانعة للنقد بـ"جمهور حزب الله" الذي انتفض قطاعٌ منه رافضاً وجهات نظر الباحث قاسم قصير؛ بل هي ممارسة عصبوية، تجدها لدى أحزاب وتيارات يفترض بها أنها علمانية أو مدنية الطابع، كالتي أشار لها صديقنا الحصيف في تعليقه أعلاه.

من هنا، فإن نقد هذه العقلية المتوجسة، هو نقد عابرٌ للطوائف والأديان والتيارات، ويروم تفكيك الجذر الأساس الذي يسيجُ جداراً سمكياً حول الذات.

هذا "الغيتو" الذي تعيش فيه الجماعة، له عدة أسباب أدت إلى تكوينه. ولو أخذنا مثال "الشيعية السياسية" الذي تناولته المقالة السابقة، لأمكن ملاحظة التالي:

1.يتمكن القلق في الـ"لاشعور" لدى الكثير من حركات "الإسلام السياسي الشيعي"، وهو التوجس الذي مردهُ إحساسٌ بأنهم أقلية ضمن محيط سني أوسع. وبالتالي، هنالك رغبة في التمايز، الذي يحمي من الذوبان والتلاشي، أو الضعف. من هنا، تسعى هذه الحركات لأن تغذي خطاباً عصبوياً يشد من الروح المذهبية، قبالة المذاهب الأخرى. قد لا يكون البعض منطلقاً من الكراهية للآخر، لكنه يقع تحت ضغط "غريزة البقاء" التي تدفعه أحياناً لفقدان البصيرة السليمة، وعزز ذلك خطاب "داعش" الاستئصالي. وللخروج من هذا المأزق الهوياتي، ينبغي أن يُقدم الناس ذواتهم بوصفهم مواطنين على ذات القدم من المساواة، بغض النظر عن مذاهبهم، وبالتالي لن تكون هنالك غلبة لطرف على آخر، لأن الجميع يحتكمون للقانون، الذي يرفض التمييز بينهم.

2.الصراع الطائفي السني – الشيعي، وهو صراع جعل كل فريق يتخندق خلف مفاهيمه الخاصة، وسرديته التاريخية، وبالتالي العودة إلى "الجماعة" لأنها الحصن الحصين! 

في هذا الصراع المذهبي، استخدمت فتاوى التكفير والتضليل، كما وصل الأمر إلى الاقتتال والتصفيات الجسدية، والعمليات الانتحارية، كما في سورية والعراق. ولذا، نجد أن الفرد السني أو الشيعي، يتحصن بجماعته المذهبية، فيما التصرف الطبيعي هو أن يتحصن بـ"الدولة"، كونها الكيان الحاضن لجميع التشكيلات العرقية والدينية. إلا أن ضعف الدولة، أو غيابها، في أكثر من قُطرٍ عربي، أدى لأن تكون هذه "الهويات الفرعية" هي الملجأ، رغم كونها بيوتاً هشة! 

أيضاً، ضمن هذا الصراع، انجرت شخصيات ذات طباع مدني، إلا أنها فجأة استيقظت لتُبدل موقعها العلماني، بموقع آخر طائفي. فيما "العلمانيون الحقيقيون" لا سند لهم، لأنهم "خارج الطوائف"، ولا يحتمون بالقبيلة أو العائلة، ولذا تحولوا إلى الحلقة الأضعف في هذا الصراع المدمر، وصار تأثيرهم على الجمهور العام محدوداً.

3.الشعور بفائض القوة. أمرٌ آخر يدفع ليس "الشيعية السياسية" وحدها إلى رفض النقد الذاتي، بل أغلب الحركات الإسلامية كما الوطنية؛ فضلاً عن من بيدهم سلطة إطلاق الأوامر وتنفيذها. فالطبيعة البشرية، تقول إن "القوي" لن يتنازل لمن هو أضعف منه. هذا الشعور بـ"القوة" نجده مثلاً لدى "حزب الله" في لبنان، أو المليشيات المسلحة في العراق. وهو ذات الشعور الذي أدى بالرئيس العراقي السابق صدام حسين إلى أن يسقط نظامه السياسي، وهو أيضاً ما أفقد حركة "فتح" وبعض الفصائل الفلسطينية قدرتها على قراءة المتغيرات السياسية، وفوت عليها فرصة الحصول على مكاسب تحققها للشعب الفلسطيني، دون أن نغفل بالتأكيد الظروف الموضوعية المؤثرة في كل تجربة. 

الشعور بالقوة يدفع إلى "الغرور"، وبالتالي تنتفي أي إمكانية للإحساس بـ"بشرية التجربة"، والتي تتحول إلى سلوك متعالٍ، وكأنه إلهيُ الطابع!

4.الأجواء الإعلامية الصاخبة، التي تقلُ فيها مستويات المهنية والموضوعية، ويتحول فيها "الإعلام" إلى جزء من معارك سياسية وحزبية، وبالتالي تكون هنالك "بيئة متوترة"، تكثر فيها مفردات التخوين والشتيمة. هذه البيئة لا تساعد على أي عملية مراجعة ذاتية، أو نقد للتجارب السابقة، لأن أي ممارسة منهجية لن تؤخذ على محمل الجد، وستستخدم بشكل مسيسٍ وموجهٍ، حتى لو لم يرد صاحبها ذلك. وأحياناً يتحول "النقد" إلى نوع من "التبضعِ السياسي"، ومحاولة لـ"الاسترزاق" والحصول على مغانم ذاتية.

لو عدنا إلى نموذج الصحافي قاسم قصير، سيلاحظُ المراقب أن نقده لخطاب "حزب الله" والعلاقة بينه وبين إيران، تم استخدامه بطريقة مسيّسة موجهة، صيرته ورقة في صراعٍ بين أقطابٍ مختلفين. 

أنصار "الولي الفقيه"، وعبر هجومهم على قصير، كانوا يبعثون رسائل قاسية تتجاوز قاسم قصير ذاته، وتطال أي شخص يتجرأ على مساءلة "حزب الله".

فيما خصوم "الضاحية الجنوبية"، اعتبروا حديث قصير شهادة من داخل "البيت الشيعي"، وبالتالي؛ هنالك قميصٌ يمكن أن يستخدم للثأر من القتلة!

تحول النقد الموضوعي الذي أطلقهُ قاسم قصير، إلى تراشق بين جبهتين لا ينتمي إلى أيٍ منهما، دون أن يتمعن كل طرفٍ في حديث قصير ذاته، أو أهدافه، وطبيعة الرسائل التي يريد أن يوجهها. خصوصاً أن قصير غير معني بأن يكون جزاًء من هذه المحاور المتصارعة، بقدر ما يهمه أن يدفع بالنقد والمراجعة والجرأة على المساءلة دون خوف أو مكيدة.

5.سيطرة العقل الجمعي. وهي سطوة تجعل الجموع تسير بطواعية خلف خطاب رمزها أو قائدها. خصوصاً إذا كانت هذه الشخصيات تمتلك قدرة على التحشيد الجماهيري، كما في أمثلة مثل: الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، أو مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية آية الله الخميني، أو زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، أو الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله. 

هذه الشخصيات التي تختلف تجاربها، تمثلُ "أيقونات" لدى أتباعها، رغم أن مناوئيها ينظرون لها سلبية. إلا أن قوة تأثيرها على محبيها، تجعل هؤلاء يصغون لها، ويطيعونها، حتى لو كانوا يعتقدون أحياناً بخلاف رأيها. 

"الطاعة المطلقة" تجعل الفرد يغيّب ذاته، ويتنازل عن عقله، ويتحول إلى مجرد رقم ضمن قافلة ممتدة من الموالين الذين لا يعصون ما يؤمرون! وعليه، فإن من لا يخطئ أمر زعيمه، لن يكون قادراً على قول "لا"، أو يفكر في أن يبني وجهة نظر مستقلة ومتبصرة.

هنالك عوامل أخرى، تفصيلية، ترتبط أحياناً بالتجارب المحلية لكل تيار أو مجموعة بشرية، إلا أن النقاط المشار إليها، ربما تشكل أساس الجدار الصلب الذي يعيق أي مراجعة نقدانية حقيقية وجادة.

إن المراجعات المنهجية الدائمة ضرورة لاستمرار التجارب وتطورها، وفقدانها يؤدي إلى تكريس العصبية والانغلاق وتراكم الأخطاء. بل، يقود إلى عدم فهم الوقائع الجديدة، وبالتالي سيقف الفرد أمامها عاجزاً، غير قادر على مواكبتها أو التفاعل الإيجابي معها. ولذا، على "الشيعية السياسية" وغريمتها "السنية السياسية" أن تنخرطا بتياراتهما المختلفة، في عملية قراءة للأدبيات التي أنتجتها، والتحالفات التي كونتها، وعلاقتها مع جمهورها والسلطات في البلدان التي تنشط فيها، وأن تكون قادرة على أن تتحول إلى مكونات غير مذهبية، منفتحة ومنخرطة في العمل السلمي المدني الذي ينظمه القانون، دون قلق من أن هنالك من يريد أن يقصيها أو ينصب لها المشانق، لأن هذه المراجعات هي الطريق الأقصر نحو الاندماج والتكيف الحقيقي والصادق، الذي يجعلها شريكة في عمليات البناء والتنمية.

إذا لم نراجع تجاربنا بشفافية وشجاعة وعلمية، ونتحرر من التقديس الزائف، والأنانية الحزبية، وإذا لم نهيئ بيئة صحية لهذه المراجعات الملحة بعيداً عن الشتائمية والغرائزية، فإن المجتمعات ستكون حركتها مثقلة بكثير من الأغلال، التي آن لها التخلص منها. 

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية