
تُعدّ العملية "المفاجئة" التي نفذتها إسرائيل بقصف منشآت في مدينة الحديدة اليمنية، "محطات توليد كهرباء وخزانات وقود" تُستخدم من قبل جماعة أنصار الله الحوثية، تُعدّ متغيراً نوعيّاً في مؤشرات الحرب الإقليمية التي أصبحت أحد أبرز مفردات تداعيات حرب غزة، ورغم أنّ العملية الإسرائيلية جاءت ردّاً على "نجاح" مسيّرة تابعة للحوثيين باختراق الدفاعات الجوية الإسرائيلية، والوصول إلى تل أبيب، وقصف مبنى فيها أدى إلى مصرع إسرائيلي، إلا أنّها تستبطن أبعاداً تتجاوز الفعل وردّ الفعل، ومفهوم قواعد الاشتباك العسكرية، فوفقاً لتسريبات إسرائيلية نفذت العملية (20) طائرة "إف 15" انطلقت من قاعدة جوية في تل أبيب، على بعد حوالي (1700) كم من اليمن. وتالياً قراءة لهذه العملية بعناوينها الكبرى، والتي تكشف سياقاتها ودلالاتها، والمقاربات الإسرائيلية لهذه العملية، ومقاربات جماعة الحوثي والمحور الذي تقوده إيران:
أوّلاً: مقاربات إسرائيل ونتنياهو
مؤكد أنّ العملية الإسرائيلية قد فاجأت الحوثيين، وكسرت تقديرات موقف بأنّ إسرائيل لن تجرؤ على مهاجمة قواعدهم في اليمن، إذ رغم الهجمات المتكررة من قبل الحوثيين على أهداف داخل إسرائيل، تجاوزت مناطق إيلات على البحر الأحمر، ووصلت مدناً وموانئ إسرائيلية على البحر الأبيض المتوسط، تم تنفيذها بصورة منفردة أو بالاشتراك مع فصائل مقاومة أخرى، إلا أنّ إسرائيل التزمت عدم الردّ، بتوافق مع أمريكا وبريطانيا ودول التحالف الذي تقوده واشنطن، الذي تكفل بمواجهة الحوثيين بعد انتقال عملياتهم من استهداف السفن التجارية المرتبطة بالموانئ الإسرائيلية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ثم انتقلت إلى استهداف إسرائيل بالصواريخ والمسيّرات، وسرعان ما توسعت فتحولت إلى قرصنة سفن تجارية دولية لا علاقة لها بإسرائيل ولا ترتبط بحرب غزة، واستهدفت قطعاً عسكرية في البحر الأحمر وبحر العرب.
العملية الإسرائيلية فاجأت الحوثيين، وكسرت تقديرات موقف بأنّ إسرائيل لن تجرؤ على مهاجمة قواعدهم في اليمن
وقدمت إسرائيل سردية مكررة تستخدمها في "تبرير" ضرب أهداف تابعة لفصائل "محور المقاومة" الموالية لإيران، فقد أكدت أنّها استهدفت "طريق إمداد رئيسي لإيصال الأسلحة الإيرانية إلى اليمن"، وهي تهمة كافية لشن أيّ عمليات ضد الفصائل المتحالفة مع إيران، لا سيّما أنّ عمليات القصف الإسرائيلية على الحدود السورية-العراقية وصولاً إلى لبنان كانت بالتبرير نفسه، ووفقاً للسردية الإسرائيلية فإنّها أبلغت الأمريكيين قبل ساعات من تنفيذ الهجوم، ورغم صعوبة التحقق من ذلك إلا أنّ المرجح هو أنّ عملية بهذا الحجم لا يمكن أن تنفذ دون تنسيق مع واشنطن، لا سيّما لتنبيه الأسطول الأمريكي في البحر الأحمر لاتخاذ احتياطاته اللازمة تجاه أيّ ردات فعل من قبل الحوثيين.
ولم تخفِ التصريحات الإسرائيلية بعد العملية، بما في ذلك إطلاق اسم "اليد الطولى" على العملية، أنّها جاءت تأكيداً من إسرائيل على أنّها ما زالت تحتفظ بقوة الردع الاستراتيجي لديها، بعد شكوك عميقة حول ذلك تم طرحها حتى من قبل جنرالات إسرائيليين، منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فالرسالة الإسرائيلية بهذه العملية مباشرة؛ وهي أنّها قادرة على ضرب أيّ أهداف في المنطقة، وأنّ "اليد الطولى" رسالة لإيران بالدرجة الأولى وللدول العربية.
وإلى جانب ذلك، فإنّه لا يمكن عزل هذه العملية عن سياقات أهداف خاصة بنتنياهو واليمين الإسرائيلي، الذي يريد تأكيد قوة إسرائيل بقيادته، ولا يستبعد أن تكون إحدى أوراقه في خطابه المنتظر أمام الكونغرس الأمريكي، خاصة أنّ شعوره بالنشوة قد ازداد بعد تنحي بايدن عن سباق الرئاسة، وعززت مؤشرات واستطلاعات رأي احتمالات فوز حليفه (ترامب) في الانتخابات الأمريكية القادمة، وربما يقدّم نتنياهو أوراق اعتماد أخرى، من بينها الإعلان عن تصفية قادة من حماس، ومن كتيبة الرضوان التابعة لحزب الله اللبناني، وقادة من الحرس الثوري الإيراني، تمهيداً لاستعادة استراتيجيته السابقة التي تتوافق مع استراتيجية ترامب، وهي "تشكيل تحالف سنّي ضد إيران ووكلائها" في المنطقة.
ثانياً: مقاربات الحوثي والمحور الإيراني
مثل بقية فصائل محور المقاومة، جاء رد الحوثيين على العملية من خلال الخطاب "الشامل" الذي ألقاه زعيم الجماعة (عبد الملك الحوثي) بعد العملية الإسرائيلية، مؤكداً سعادة الحوثيين بأنّ هذه المواجهة بداية للمرحلة الخامسة من التصعيد، وأنّ الحرب أصبحت مباشرة "بلا وكلاء" مع العدو "الإسرائيلي والأمريكي"، حيث نُفذت الغارات بقنابل أمريكية كما هو الحال في فلسطين لاستهداف منشآت مدنية ومدنيين، داعياً الإسرائيليين لأن يخافوا ويقلقوا أكثر من أيّ وقت مضى، وأن يدركوا أنّ قادتهم الحمقى يجرون عليهم المخاطر أكثر وأكثر، واعتبر أنّ الطائرة التي استهدفوا بها مدينة تل أبيب مساء الخميس، هي تصنيع يمني وأطلقتها قوة يمنية، وهي مسيّرة متطورة ذات قدرة واضحة على المستوى التكتيكي والتقني، وذات مدى بعيد وقوة تدميرية جيدة تفوق أيّ طائرة أخرى، وليست كما يسميها البعض بأنّها صُنعت في بلدان أخرى، أو أُطلقت من بلدان أخرى”. وعرّج الحوثي على العلاقة بين إيران وعمليات المقاومة، ومنها عمليات الحوثي، بقوله: إنّ الحديث عن أيّ موقف مساند للشعب الفلسطيني بأنّه من أجل إيران هو منطق الإسرائيلي، ومن يقول ذلك فهو عميل للإسرائيلي ويسيء للشعب الفلسطيني.
خطاب زعيم الجماعة الحوثية يؤكد عدداً من الحقائق، ربما بعضها معروف مسبقاً، ومنها أنّه مفتون بخطابات السيد حسن نصر الله ويحاول نسج خطاباته على منوالها
وبعيداً عن الاتهامية ونظريات المؤامرة، فإنّ خطاب زعيم الجماعة الحوثية يؤكد عدداً من الحقائق، ربما بعضها معروف مسبقاً، وهي: أنّه مفتون بخطابات السيد حسن نصر الله ويحاول نسج خطاباته على منوالها، ثم إنّ تكرار تأكيده على نفي العلاقة بين الحوثيين وإيران إنّما يؤكد هذه العلاقة بالدعم والتصنيع العسكري، بما في ذلك الطائرات المسيّرة، فقد احتلت إيران مساحة من الخطاب أكبر بكثير من مساحة تأثير الغارات الإسرائيلية، وهو ما جعل الخطاب ينزاح إلى خنادق دفاعية وتبريرية، تستثمر بشعب فلسطين ومعاناته بالربط بين القنابل الأمريكية التي تقصف مدنيين على السواء في فلسطين واليمن، وهي مقاربة تستخدمها كافة فصائل المقاومة.
غير أنّ الأهم في إدارة الحوثيين لأزمة الغارات كان حرف الأنظار عن ردود الفعل اليمنية الداخلية والإجابة عن تساؤلات متوقعة حول دور الحوثي وارتباطه بالمشروع الإيراني، والأهداف التي حققها الشعب اليمني الذي يعاني أكبر مجاعة من هذه العمليات، بأن ذهبت منصات إعلامية تابعة لمحور المقاومة، للتركيز على مساهمة دول عربية "السعودية، ومصر، والأردن" بتقديم تسهيلات لسلاح الجو الإسرائيلي، وهو ما نفته هذه الدول، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بعضها كان تسريبات إسرائيلية هدفت لخلط الأوراق في المنطقة، وتوسيع رقعة الحرب، لتكون حرباً إقليمية، تضطر معها أطراف كثيرة للدخول فيها رغماً عنها.
وحول السيناريوهات المستقبلية لما بعد هذه العملية، فرغم تأكيدات الحوثيين انتقالهم إلى مراحل مواجهة مباشرة مع "العدو"، وهو ما يعني أننا أمام سيناريوهات تصعيد أوسع، لكنّ السيناريوهات الأكثر ترجيحاً هي أنّ مستويات المواجهة ستبقى بهذه الحدود "الفعل وردّ الفعل"، وستكون مرتبطة بالنسبة إلى الحوثيين بتعليمات إيرانية، وانتظار طهران وتل أبيب نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة.