
ترجمة: محمد الدخاخني
في تعليق انتشر على الصفحات الأولى في تركيا، وأثار الدهشة في العواصم الغربية، أكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان مؤخَّراً أنّ الجهود الإنسانية التي تقودها الولايات المتحدة من أجل غزة، والمتمركزة في جمهورية قبرص، كانت بمثابة غطاء لعمليات عسكرية.
وحذَّر في مقابلة أجريت معه من أنّ "هناك عسكرة خطيرة"، مردداً التصريحات الأخيرة لزعيم (حزب الله) حسن نصر الله. وأضاف: "عندما تصبح جزءاً من الحروب المتواصلة في الشرق الأوسط، ستأتي هذه النار وتطالك أيضاً".
كانت الاتهامات القوية حكراً على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ فترة طويلة، ولكن بعد مرور عام على توليه منصبه، يبدو أنّ فيدان قد تخلى عن تحفظه المعتاد واتخذ وضعاً أكثر جرأة. وتعمل واشنطن على زيادة تعاونها العسكري مع قبرص واليونان، ولذلك بدا اتهامه بمثابة انتقاد واضح لحلفاء تركيا في (حلف شمال الأطلسي). وقد جاء ذلك بعد وقت قصير من زيارة فيدان لمنطقة شينجيانغ الصينية وتحدّثه عن "الثقافتين التركية والإسلامية القديمتين"، وهو ما يتعارض مع وجهة نظر بكين بأنّ الأويغور شعب غير تُركي وله جذور صينية عميقة.
لكنّ وزير الخارجية التركي عبارة عن ثروة من التناقضات. فهو من الصقور، لكنّه أكثر محبَّةً للكتب من غيره. إنّه ليس فناناً حزيناً مثل خليفته في (وكالة المخابرات التركية) إبراهيم كالين، الذي يُصدر أحياناً مقاطع فيديو موسيقية يتغنَّى فيها بالحب الإسلامي. مُتجنِّباً فظاظة سلفه مولود تشاووش أوغلو، يُطلق فيدان هالةً من العناد المهذب، مبتسماً ابتسامة عريضة بينما توضح عيناه أنّه لن يتمايل.
منذ انهيار محادثات السلام في عام 2015، أصبحت أنقرة أكثر عدوانية بشأن القضية الكردية، وجددت الصراع مع الميليشيات الكردية في الجنوب الشرقي وكذلك شمال العراق وشمال شرق سوريا. ومع ذلك، فإنّ فيدان كردي من جهة والده، ولعب دوراً رئيساً في المحادثات السرية بين أنقرة و(حزب العمال الكردستاني) في الفترة من 2009 إلى 2010.
ويُعَدّ فيدان أحد أعضاء الحكومة التركية القلائل الذين يجيدون الإنجليزية ويستطيعون مناقشة النقاط الدقيقة في السياسة مع نظرائهم الغربيين. لقد التحق بالجامعة في الولايات المتحدة، وحصل على درجة البكالوريوس في العلوم السياسية في ولاية ماريلاند، ودرس على يد المؤرخ الإسكتلندي نورمان ستون. وفي أطروحته للماجستير، حول تأثير الاستخبارات على السياسة الخارجية، أشار إلى (وكالة المخابرات المركزية) الأمريكية و(جهاز المخابرات السرية) البريطاني كنماذج لتركيا.
أولئك الذين يشعرون بالقلق من وجود تركيا أكثر ثقة بنفسها قد يفكرون في البديل
ومع ذلك، يمكن للمرء أن يُحاجج بأنّه كرئيس لـ (وكالة المخابرات التركية) من عام 2010 إلى منتصف عام 2023، كان جزءاً من ابتعاد تركيا عن الغرب وحلفائه. وتحت قيادته تعاونت (وكالة المخابرات التركية) مع المتمردين الذين يقاتلون الرئيس السوري بشار الأسد، بما في ذلك بعض الذين قيل إنّهم متحالفون مع المتطرفين. وتحت إشرافه ابتعدت أنقرة عن التعاون العسكري مع الولايات المتحدة وإسرائيل وطوَّرت علاقات أقوى مع إيران.
على مدار (13) عاماً نجح فيدان في تحويل (وكالة المخابرات التركية) إلى مؤسسة تتسم بالكفاءة والموثوقية وحتى بالمرونة، وهو أمر نادر في الحكومة التركية. وخلال العام الماضي سعى إلى القيام بالشيء نفسه داخل وزارة الخارجية، بهدف تحسين وضع تركيا كلاعب قوي في عالم متعدد الأقطاب.
وبحسب ما ورد حَثَّ فيدان الدبلوماسيين على التوقف عن الزواج من الرعايا الأجانب، بحجة أنّ ذلك يشكل تهديداً أمنياً. وتحرَّك لتعزيز وصقل المتحدث الرسمي باسم الوزارة وذراع الاتصالات، ووضع جميع مجالات السياسة الخارجية التركية المختلفة، بما في ذلك الجيش والدفاع المحلي، تحت مظلة الوزارة. وأمَّم خدمات التأشيرات التركية التي يديرها القطاع الخاص في جميع أنحاء العالم لتعزيز إيرادات الوزارة. وأخيراً أنشأ إدارة جديدة للأمن والمخابرات وعين سفيراً لآسيا الوسطى والشؤون التركية، ممّا يؤكد جهود أنقرة لتوسيع نفوذها في الدول التركية.
في الخارج، كان إنجازاه البارزان هما مبادلة الموافقة التركية على انضمام السويد إلى (حلف شمال الأطلسي) بصفقة أمريكية بشأن طائرات "إف-16" وتنازلات من ستوكهولم، والاستمرار في موازنة العلاقات مع روسيا وأوكرانيا، حتى عندما وجدت أنقرة طريقة للسماح بمواصلة شحن الحبوب الأوكرانية المهمة.
أولئك الذين يشعرون بالقلق من وجود تركيا أكثر ثقة بنفسها قد يفكرون في البديل.
وكان العديد من المسؤولين الغربيين يأملون في أن يخرج مرشح المعارضة الرئيس كمال كيليتشدار أوغلو منتصراً في الانتخابات الرئاسية العام الماضي. لكن ليس هناك شك في أنّ السياسة الخارجية التركية كانت ستصبح أكثر إزعاجاً، إن لم تكن أكثر فوضى، لو عُيِّن الزعيم اليميني المتطرف أوميت أوزداغ وزيراً لخارجية كيليتشدار أوغلو، كما وعد الأخير.
لكنّ أردوغان فاز، وأعطى فيدان المنصب الرفيع. وفي الأشهر الأخيرة اكتسبت فكرة أنّ فيدان قد يخلف رئيسه شعبية كبيرة. ومن المحتمل أن يتمكن من تولي المهمة، ويبدو أنّ مواطنيه متفقون على أنّه كان أداؤه جيداً كوزير للخارجية، ومن المرجح أن يلعب دوراً محورياً في أيّ حكومة لـ (حزب العدالة والتنمية).
لكنّ فيدان ليس سياسياً. فترشُّحه الوحيد لمنصب عام في أوائل عام 2015 استمر أقلّ من شهر؛ لقد أنهى حملته البرلمانية بعد أن أوضح أردوغان له أنّه ما يزال هناك حاجة إليه في (وكالة المخابرات التركية). ومع ذلك، فقد كان أكثر اجتماعية في العام الماضي، والاستمرار في هذا المسار قد يجعله شخصية عامة من نوع آخر بحلول التصويت التالي في عام 2028.
في الوقت الحالي، قد يكون هذا شهراً كبيراً بالنسبة إلى مكانة تركيا في العالم. فبعد قمة (منظمة شنغهاي للتعاون) التي عقدت الأسبوع الماضي في كازاخستان، من المقرر أن يصل أردوغان وفيدان إلى واشنطن يوم الثلاثاء لحضور قمة (حلف شمال الأطلسي) الأولى منذ انضمام السويد إلى الكتلة. وفي الأسبوع المقبل يخطط كبار المسؤولين الأتراك واليونانيين للاجتماع بشكل منفصل في قبرص للاحتفال بمرور (50) عاماً على تقسيم الجزيرة.
فهل نتوقع تأكيداً آخر مثيراً للجدل من قِبل فيدان بشأن الداعمين الغربيين لحرب إسرائيل في غزة؟ أو ربما حديثاً أشدّ عن تقسيم قبرص بشكل دائم؟ من المقرر أن يلقي الزعيم التركي خطاباً كبيراً في هذه المناسبة، لكن لن يكون من المفاجئ أن يجعل وزير خارجيته حضوره محسوساً أيضاً.
المصدر: