
ديفيد ليبيسكا، ذي ناشيونال نيوز، 7 أيار (مايو) 2024
ترجمة: محمد الدخاخني
التحول المناهض لإسرائيل في تركيا حدث بالطريقة نفسها التي يصف بها إرنست همنغواي بداية الإفلاس: "تدريجياً، ثمَّ فجأة".
بعد أشهر من إدانة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والاعتداءات الإسرائيلية في غزة - مع الحفاظ على العلاقات بين البلدين بهدوء - بدأت أنقرة في تغيير مسارها منذ شهر تقريباً.
في أوائل نيسان (أبريل) أوقفت تركيا تجارة أكثر من (50) منتجاً مع إسرائيل يمكن أن تكون لها استخدامات عسكرية، مثل الفولاذ والأسمدة ووقود الصواريخ. وبعد أسبوعين قارن الرئيس رجب طيب أردوغان (حماس) بحركة المقاومة التي فازت باستقلال تركيا قبل قرن من الزمان، ثم رحب بزعيم الحركة إسماعيل هنية في إسطنبول.
وأخيراً في الأسبوع الماضي أُطلِقَت الضربة القاتلة؛ أوّلاً قال وزير الخارجية هاكان فيدان للصحافيين إنّ تركيا ستسعى لأن تصبح مدعياً مشاركاً في قضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في (محكمة العدل الدولية)، وفي اليوم التالي تعهّدت أنقرة بوقف جميع أشكال التجارة مع إسرائيل حتى تسمح حكومتها بإيصال المساعدات من دون انقطاع إلى غزة، لتصبح أول دولة تفرض حظراً تجارياً كاملاً على إسرائيل بسبب حربها على القطاع.
من الصعب المبالغة في أهمية هذا القرار، فإسرائيل وتركيا أبرمتا اتفاق تجارة حرة منذ التسعينيات من القرن الماضي، وبلغ إجمالي حجم التجارة الثنائية بينهما العام الماضي نحو (7) مليارات دولار، معظمها صادرات تركية. بالإضافة إلى ذلك فإنّ حوالي 40% من استهلاك إسرائيل السنوي من النفط عبارة عن خام أذربيجاني يُنقَل عبر الأنابيب إلى ميناء جيهان التركي، ثم يُحمَّل على ناقلات للشحن.
وإذا أوقفت تركيا حركة النفط في ميناء جيهان، فسوف تضطر إسرائيل إلى إيجاد بديل للطاقة بسرعة أو مواجهة عواقب وخيمة، ممّا سيفرض ضغوطاً إضافية على حكومة نتنياهو التي تتعرض بالفعل لانتقادات كثيرة.
بعد التقارب الواعد في العام الماضي، وضعت أنقرة الآن علاقاتها مع إسرائيل في حالة تجميد عميق. وقال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس على موقع (إكس) عن أردوغان: "هذه هي طريقة تصرُّف دكتاتور يتجاهل مصالح الشعب التركي ورجال الأعمال الأتراك واتفاقيات التجارة الدولية".
وحتى يوم الإثنين كانت إسرائيل ما تزال تُقيِّم مدى الحصار التجاري، لكن ينبغي لنا أن نتوقَّع رداً قوياً. وتعهَّد مسؤولون إسرائيليون بالسعي لفرض عقوبات على تركيا، وحثوا (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) على فرض عقوبات على البلاد. ويمكن لإسرائيل أيضاً أن تتحرك لمنع التدخل التركي في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط وإبقاء المقاولين الأتراك، الذين قاموا بعمل كبير في إسرائيل، خارج الميزانية المتوقعة لإعادة إعمار غزة والتي تبلغ قيمتها (40) مليار دولار.
وقد يثير الحظر التجاري أيضاً غضب الولايات المتحدة، أقرب حلفاء إسرائيل وشريكة تركيا في (حلف شمال الأطلسي). وحث بعض المحللين الغربيين واشنطن بالفعل على فرض عقوبات على تركيا وإلغاء صفقة بيع طائرات (إف-16) التي تمَّت الموافقة عليها مؤخَّراً. على الرغم من هذه المخاطر، ربما رأى الزعيم التركي أنّ استمرار التجارة مع إسرائيل يتطلب تكلفة سياسية باهظة.
ففي أعقاب الانتخابات البلدية الأخيرة استيقظ (حزب العدالة والتنمية) الحاكم في الأول من نيسان (أبريل) ليجد نفسه، للمرة الأولى منذ عقود، ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد بعد (حزب الشعب الجمهوري)، المعارض الرئيس. وكان هذا إلى حد كبير بسبب حصول (حزب الرفاه الجديد) الإسلاموي على المركز الثالث بشكل مفاجئ، حيث اجتذب الناخبين السابقين لـ (حزب العدالة والتنمية) من خلال التأكيد على موقف الحكومة المتناقض تجاه إسرائيل.
ويرى معظم المراقبين أنّ الحظر التجاري بمثابة استسلام لـ (حزب الشعب الجمهوري) وحركة الاحتجاج التي يقودها الشباب. لكنّ الانتخابات المقبلة في تركيا لن تُجرى قبل عام 2028، وأظهر استطلاع للرأي أجري في أواخر نيسان (أبريل) أنّ معظم الأتراك ـ 52% - يعتقدون أنّ (حزب العدالة والتنمية) خسر التصويت بسبب قضايا اقتصادية.
ويبدو من غير المرجح أن تختار حكومة (حزب العدالة والتنمية) قطع هذا المصدر الذي تشتد الحاجة إليه من الأموال الأجنبية، ممّا يعرضها لخطر فرض عقوبات والمزيد من المخاطر الاقتصادية، من أجل الحصول على مكاسب سياسية محتملة بعد أعوام. وبالنظر إلى وَلَع أردوغان بمناصرة المسلمين المضطهدين، فمن المحتمل أن يكون القرار أيضاً بمثابة إشارة إلى رياح جيوسياسية متغيرة.
وبينما تبدأ إسرائيل هجومها على رفح وسط تقارير عن حدوث مجاعة ومخاوف من نزوح جماعي، تتزايد الضغوط العالمية على إسرائيل لإنهاء حربها. لقد استدعت الأردن والبحرين سفراءهما، في حين قطعت كولومبيا وبوليفيا وبليز علاقاتها الدبلوماسية بإسرائيل. وما تزال واشنطن ملتزمة تجاه إسرائيل، لكنّ الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا أعربت عن انتقادات أعمق في الأسابيع الأخيرة. وربّما استجابةً للمقاومة المتزايدة من زملائه الديمقراطيين، ورد أنّ الرئيس جو بايدن منع الأسبوع الماضي نقل أسلحة إلى إسرائيل للمرة الأولى منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر).
كما أنّ الجهات الفاعلة غير الحكومية لها كلمتها أيضاً. ففي كانون الثاني (يناير) أصدرت (محكمة العدل الدولية) ما وصفته مجلة (الإيكونوميست) بـ "التوبيخ اللاذع" لإسرائيل بشأن غزة، ويقال الآن إنّ (المحكمة الجنائية الدولية) تدرس إصدار مذكرة اعتقال بحق نتنياهو. وتحت ضغط من المتظاهرين، بدأ العديد من الجامعات الأمريكية، بما في ذلك جامعات النُّخبة المعروفة بتخريج كبار المسؤولين الأمريكيين، مناقشة قطع العلاقات المالية مع إسرائيل. "وعلى نحو ملائم لهذا السياق، أحد قادة الطلاب الذين يتفاوضون مع جامعة كولومبيا هو طالب ماجستير في مجال حقوق الإنسان مولود في تركيا".
وبالتالي، جاء قرار أنقرة كجزء من الإدانة والعزلة العالمية المتزايدة لإسرائيل. وقد تمنح هذه الخطوة أيضاً وضعاً أفضل لتركيا لاستضافة (حماس). فالعديد من التقارير يشير إلى أنّ الولايات المتحدة تريد من قطر إخراج الحركة، التي سيتعيَّن عليها حينها العثور على موطن جديد. ويتواجد زعيم (حماس) إسماعيل هنية في تركيا منذ لقائه بأردوغان، وقد التقى بالعديد من الشخصيات السياسية الأخرى، ملمحاً إلى إقامة أطول.
وبغضّ النظر عن الدوافع، فإنّ خطوة أنقرة تمثل انتقاداً واضحاً وعقوبة قاسية من المرجح أن تقوِّض المجهود الحربي الإسرائيلي. وقال أردوغان الأسبوع الماضي إنّه بالإضافة إلى إجبار إسرائيل على الموافقة على وقف إطلاق النار، فإنّه يأمل أن يكون الحظر التجاري الذي تفرضه تركيا مثالاً يحتذى به.
يحب منتقدو أردوغان والمؤيدون لإسرائيل تصوير تركيا على أنّها مفلسة أخلاقياً، في حين يقول الفلسطينيون ومؤيدوهم الشيء نفسه عن إسرائيل. وقد يكتسب أحد الطرفين الآن وضع المنبوذ. فهل تحذو دول أخرى حذو تركيا، أم أنّ الولايات المتحدة وأوروبا سوف تظهران احتضانهما لإسرائيل من خلال إيجاد سبل لممارسة الضغوط على أنقرة لحملها على عكس مسارها؟
وعلى افتراض دخول القوات الإسرائيلية إلى رفح واحتلالها، فقد يكون الجواب "نعم"، في كلتا الحالتين.
المصدر: