إدواردو غاليانو يتتبّع أحوال كرة القدم بين الشمس والظل

إدواردو غاليانو يتتبّع أحوال كرة القدم بين الشمس والظل


29/01/2018

يُعدّ الأوروغواياني إدواردو غاليانو من أبرز كتّاب أمريكا اللاتينية، وهو مؤلّف أعمال مهمة ألهمت العديد من مؤلّفي الموسيقى الشعبية والسيمفونية في كلّ أنحاء العالم، ترجمت أعماله إلى 28 لغة.

ومن بين أشهر ما كتبه غاليانو "ذاكرة النار" و"عروق أمريكا اللاتينية النازفة للدماء"، و"كرة القدم بين الشمس والظل"، و"أيام وليالٍ من الحبّ والحرب"، و"كتاب العناقات"، و"الكلمات التي تمشي"، و"عاليها سافلها"، و"أصوات الزمن"، و"المرايا" وسواها.

يمزج غاليانو في أسلوبه المفردات والأنماط التي عرفها الأدب العالمي من الرومانسية إلى الواقعية والرمزية وكتابات الحداثة والسوريالية. لكنّه في ذلك كله، يحاول تحطيم النمط وشق طريقه الخاص.

الحَكَم هو الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المغلقة

وفي هذا السياق، يأتي كتابه "كرة القدم بين الشمس والظل" الذي يتتبّع فيه غاليانو تاريخ كرة القدم وأحوالها منذ كأس العالم 1938 وحتى مونديال 1994، كما يتتبّع فيه كرة القدم أيضاً، منذ أن كانت مجرد هواية، وتحولّها بعد ذلك إلى صناعة تدرّ الملايين، ويستثمر فيها الأرباح الفلكية، وتجري في أروقتها الصفقات، ويخرج منها دخان الاتهامات بالفساد والرشوة.

إنّ كرة القدم، كما يقول غاليانو، هي مرآة للعالم، وهي تقدم ألف حكاية وحكاية مهمة؛ فيها المجد والاستغلال والحب والبؤس، وفيها يتبدّى الصراع بين الحرية والخوف.

انطلاقاً من أكثر من مئة مرجع، أعاد غاليانو إلى بؤرة الضوء حشداً كبيراً من الذكريات واللحظات الساحرة، تلك التي تنسينا أنّ كرة القدم الاحترافية "هي رهن بقوانين السوق" مع أنّ اللاعبين "أناس يجعلون الوهم ممكناً".

في كتابه "كرة القدم : بين الشمس والظل" الذي ترجمة صالح علماني، وصدر عن دار طوى، 2013، يتناول غاليانو بعض أركان هذه اللعبة "التي توجّه، عادة، من قبل رجال أعمال وسياسيين يستخدمون كرة القدم كمنجنيق دعائي للوصول إلى الصدارة في الإعلان".

كتاب "كرة القدم بين الشمس والظل"، ترجمة صالح علماني، صدر عن دار طوى، 2013

وفيما يأتي مقتطفات من الكتاب:

الحَكَم

الحَكم هو متحكّم في التعريف، إنه الطاغية البغيض الذي يمارس ديكتاتورية دون معارضة ممكنة، والجلاد المتكبر الذي يمارس سلطته المغلقة فيما الصفارة في فمه؛ حيث ينفخ الحكم رياح القدر المحتوم ..

خلال أكثر من قرن كان الحكم يرتدي لون الحداد. على من. على نفسه؟ أما الآن، فإنّه يخفي حداده بالألوان.

المدير الفني

- يصرخ الجمهور به بعد الهزيمة:

- ألا تموت مطلقاً؟

وفي يوم الأحد التالي يدعونه لأن يموت.

هو يظن أنّ كرة القدم عِلم، وأنّ الملعب مختبر، ولكنّ المسؤولين والمشرّعين لا يطالبونه بامتلاك عبقرية أينشتاين وبُعد نظر فرويد وحسب؛ بل وبقدرات عذراء لورديك الإعجازية، وقدرة غاندي على التحمل.

اللاعب

يركض لاهثاً على شفير الهاوية. في جانب تنتظره سماوات المجد، وفي الجانب الآخر هوة الدمار.

الحي الشعبي الذي خرج منه يجسده بأسره: فاللاعب المحترف قد نجا من العمل في المصنع أو المكتب، إنهم يدفعون له من أجل توفير التسلية، لقد ربح اليانصيب، وبالرغم من أنّه يتوجّب عليه أن ينضح عرقاً مثل مرشّة، دون أن يكون له الحق في التعب أو الخطأ، فإنّه يظهر في الصحف والتلفزيون. النساء يتنهّدن من أجله، والأطفال يريدون تقليده، أما هو الذي بدا يلعب من أجل متعة اللعب، في الشوارع الترابية للأحياء الهامشية، فقد صار يلعب الآن في الستادات الكبرى من أجل واجب العمل، وهو مجبر على الربح.

رجال الأعمال يشترونه، يبيعونه، يديرونه، ويسلم هو قياده لهم مقابل الوعد بمزيد من الشهرة ومزيد من المال. وكلما نال شهرة أكبر، وكسب أموالاً أكثر، يصبح أسيراً أكثر.

في المهن الإنسانية الأخرى يأتي الغروب مع الشيخوخة أما لاعب كرة القدم فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره

إنّه يخضع لانضباط عسكري صارم، ويعاني كل يوم عقوبة التدريب القاسية، ويخضع لقصف المسكّنات، وتسلل الكورتيزون الذي ينسيه الألم، ويزيّف حقيقة حالته الصحية. وعشية المباراة المهمة يحبسونه في معسكر اعتقال فيقوم بأعمال شاقة، ويأكل أطعمة غبية، ويسكر بالماء وحده، وينام وحيداً.

في المهن الإنسانية الأخرى، يأتي الغروب مع الشيخوخة. أما لاعب كرة القدم، فقد يشيخ وهو في الثلاثين من عمره؛ لأنّ العضلات تتعب باكراً، وعندئذ تسمع من يشير إليه قائلاً:

- هذا لا يمكنه أن يسجل هدفاً حتى في ملعب يميل نزولاً.

- هذا لن يسجّل هدفاً حتى ولو قيّدوا له يديْ حارس المرمى.

وقد يشيخ لاعب كرة القدم قبل الثلاثين إذا ما أفقدته ضربة كرة صوابه، أو إذا ما مزّق سوء الحظ إحدى عضلاته، أو كسرت ركلة إحدى عظامه التي لا سبيل إلى إصلاحها، وفي يوم مشؤوم، يكتشف اللاعب أنه قد قامر بحياته، وأنّ المال قد تبخر وتبخّرت معه الشهرة أيضاً، فالشهرة سيدة محترمة مراوغة، لم تترك له حتى رسالة عزاء صغيرة.

حارس المرمى

يسمونه البوّاب، والغولار، وحارس حاجز، وحارس القوس، ولكننا نستطيع أن نسميه الشهيد، الوثن، النادم، أو المهرج الذي يتلقى الصفعات، ويقولون إن المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبداً.

إنه وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيداً إعدامه رمياً بالرصاص بين العوارض الثلاث، كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم، أما الآن، فلم يعد الحكم يتنكّر بزي الغراب، وصار حارس المرمى يسلي وحدته بتخيلات ملونة.

حارس المرمى هو المذنب دائماً، وهو الذي يدفع الثمن، حتى لو لم يكن مذنباً، فعندما يقترف لاعب كرة خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمّل هو العقوبة.

إنّه لا يسجل أهدافاً؛ بل يقف ليمنع تسجيلها، ولأنّ الهدف كرة القدم، فإنّ مسجّل الأهداف يصنع الأفراح، أما حارس المرمى، غراب البين، فيحبطها ..

حارس المرمى هو المذنب دائماً، وهو الذي يدفع الثمن، حتى لو لم يكن مذنباً، فعندما يقترف لاعب كرة خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمّل هو العقوبة: يتركونه هناك، وحيداً أمام جلاده، في اتساع المرمى الخاوي. وعندما يتعرض فريق الكرة لسوء، يكون عليه أن يدفع الثمن تحت وابل من الكرات، ليكفّر عن ذنوب الآخرين.

يمكن للاعبين أن يخطئوا مرات، ولكنهم يستردون مكانتهم بعد القيام بمراوغة استعراضية، أو تمريرة بارعة، أما هو فلا يمكنه ذلك، الحشود لا تغفر لحارس المرمى.

بخطأ واحد قد يدمر حارس المرمى مباراة كاملة، أو يخسر البطولة، وعندئذ ينسى الجمهور فجأة كلَّ مآثره، ويحكم عليه بالتعاسة الأبديّة، وتلاحقه اللعنة حتى نهاية حياته .

الجووووول

الجول هو ذروة المتعة في كرة القدم، ومثل ذروة التهيج الجنسي.

المشجع

المدينة تختفي، الروتين ينسى، ولا يبقى شيء سوى المعبد. وفي هذا الحيّز المقدس، تعرض ألوهيتها الديانة الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيها.

ومع أنّ المشجع يستطيع مشاهدة المعجزة براحة أكبر على شاشة التلفزيون، إلا، أنّه يفضّل أن يحجّ إلى هذا المكان؛ حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمهم وعظمهم، وهم يتبادلون الركل ضد شياطين هذه النوبة.

المشجّع هنا يلوّح بالمناديل، يبتلع لعاباً، غلوب، يبتلع سماً، يأكل قبعته، يهمس بصلوات ولعنات، ثم يمزّق حنجرته فجأة بهاتف مدوّ، ويقفز مثل برغوث، معانقاً المجهول الذي يصرخ معلناً الهدف بجانبه، وعلى امتداد الصلاة الوثنية، يكون المشجع كثيرين، فهو يشاطر آلاف الورعين من أمثاله القناعة بأنّنا الأفضل، وبأنّ جميع الحكام مرتشون، وجميع الخصوم مخادعون.

المتعصّب

المتعصّب هو المشجع في مشفى المجانين .. يصل المتعصّب إلى الملعب ملتحفاً راية ناديه، وبوجه مطليّ بألوان القميص المعبود، مسلحاً بأدوات مقعقعة وحادة، وبينما هو في الطريق يكون قد بدأ بإثارة الكثير من الصخب والشجار، وهو لا يأتي وحده مطلقاً.

إنّه ينظر إلى المباراة وهو في حالة صرع، ولكنه لا يراها. فما يهمه هو المدرجات؛ لأنّ ميدان معركته في المدرجات، ومجرد وجود مشجع للنادي الآخر يشكل استفزازاً لا يمكن المتعصب أن يتقبله، الخير ليس عنيفاً، ولكنّ الشرّ يجبره على ذلك، والعدو دائماً مذنب، ويستحق لوي عنقه، ولا يمكن للمتعصب أن يسهو، لأنّ العدو يترصد في كل مكان.

الستاد

هل دخلت يوماً إلى ستاد مقفر؟ جرب ذلك.

توقف في منتصف الملعب وأنصت. ليس هناك ما هو فارغ أكثر من ستاد فارغ، ليس هناك ما هو أكثر بُكماً من المدرجات الخاوية.

الكرة

للكرة نذالتها أيضاً، فهي لا تدخل أحياناً إلى المرمى؛ لأنّها تبدّل رأيها وهي في الجو، وتنحرف عن مسارها. ذلك أنّها ساخرة جداً، فهي لا تطيق أن يعاملوها ركلاً بالأقدام، ولا أن يضربوها انتقاماً. إنها تطالب بأن يداعبوها برقة، أن يقبّلوها، أن يسمحوا لها بالنوم على الصدور أو الأقدام، وهي متكبّرة، وربما مغترّة بنفسها، ولا تنقصها المبرّرات لتكون كذلك: فهي تعرف جيداً أنّ البهجة تملأ أرواحاً كثيرة، حين ترتفع بطريقة ظريفة، وأنّ أرواحاً كثيرة تختنق بالضيق عندما تسقط بطريقه سيئة.

الصفحة الرئيسية