تجاربنا التعليمية وتجاربهم.. هل تصلح المقارنة؟

تجاربنا التعليمية وتجاربهم.. هل تصلح المقارنة؟


22/01/2019

"إنّ الدولة إذا أرادت إصلاح التعليم فلا يتوجب عليها تقليد الدول الخارجية، فلكلّ دولة تجربتها، والتعليم تجربة تختلف من دولة إلى أخرى"؛ هذه الجملة التي قالها، الباحث وخبير التعليم الفنلندي، باسي سالبرغ، اعتقد الكثيرون أنّها تشير إلى الخصوصيات الطبيعية لكل مجتمع، وبالتالي إلى طبيعيّة تباين الأنماط التربوية، وتمّ تلقّفها بالبديهية نفسها التي تقول: "إنّ ملابس سكان الأسكيمو لا تناسب سكان إفريقيا".

مشكلة مجتمعاتنا لا تنحصر في العمليات التربوية بل في تحجيم وقولبة وعي الأفراد ووضع سقف فوق رؤوسهم لا يُسمح بتجاوزه

في المقابل؛ تمّ إغفال جملة للباحث نفسه ذكر فيها بأنّ "نظام التعليم في فنلندا جزء من نظام أكبر؛ اقتصادياً واجتماعياً"، حالياً؛ إذا اطّلعنا على واقع فنلندا الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والديني، سيتضح لنا أنّ التعليم في فنلندا هو نتيجة واقعية لما يريده الفنلنديون، وما يعملون لأجله.
وبالمقارنة مع واقعنا؛ سنرى أنّ المسافة التي تفصلنا عن هذه التجربة ليست الخصوصيات الطبيعية، لكنّنا كما الجندب الذي وُضع في صندوق زجاجي لا سقف له؛ ففي أول تجربة قام الجندب بالقفز عالياً، وخرج من الصندوق، ثم أعادوا التجربة ووضعوا سقفاً شفافاً، أخذ الجندب بالقفز، لكنّ السقف كان يمنعه من الخروج، بعد أسابيع قليلة لوحظ أنّ قفزات الجندب بدأت بالانخفاض، وأصبح ارتفاع قفزاته أقلّ، بعد شهر أزالوا السقف، بيد أنّ الجندب لم يهرب، وبقيت قفزاته كما لو أنّ السقف الشفاف ما يزال موجوداً، يبدو أننا لا نختلف عن هذا الجندب الذي تمّ إيهامه أنّ هذا هو ما يستطيع فقط الوصول إليه.

اقرأ أيضاً: كم أديسون خنقه نظامنا التعليمي؟!
المشكلة في مجتمعاتنا لا تنحصر في تطوير المناهج والعمليات التربوية، على أهميتها؛ بل في تحجيم وقولبة وعي الأفراد ووضع سقف فوق رؤوسهم لا يُسمح لهم بتجاوزه، بالتالي؛ لن تتمكن المناهج المطوّرة من تطوير وعي الأفراد. وإذا اتفقنا مع ما ذهب إليه "جريجوري إس.برنس الابن": "ينبغي أن يكون هدف التعليم بناء أفراد ذوي خلفية علمية واسعة وقادرين على التفكير الحرّ، ويتسمون بالإنتاجية الاقتصادية والإبداع الثقافي، والعدالة الاجتماعية، ودعم حقوق الإنسان"، سنلاحظ أنّ هدف التعليم واحد مهما تباينت المجتمعات، وليس تباين المجتمعات هو من يحدّد هدف التعليم.

التعليم الذي نريده ينطوي على تناقض بين النتائج والمقدمات، نريد نتائج التجربة الفنلندية دون الوقوف على المقدمات الحقيقية لنجاحها

حقيقةَ أنّ هناك اختلافات ثقافية تدغدغ جميع المربين ذوي النزعة المحافظة، في المقابل؛ إنها تشير إلى عدم تمكننا من رؤية أنّ الوحدة ليست في النهاية سوى مجموع أجزائها المختلفة، كما تضمر: أنّ فكرة القبول أو الاختلاف ما تزال تتناقض مع ما يعتقده كلّ منّا، أو مع التربية التي نتعرض لها، نحن في الحقيقة نتعامل مع هذه الخصوصيات كقوة نافية، نعلّق عليها تأخرنا الحضاري والاجتماعي، بالتالي؛ هذه الخصوصيات لن تتعدى كونها سوراً يعيق التواصل المعرفي، وبمعنى آخر؛ إنّها تعيق العلم والمجتمع.
محاولات تطوير التعليم في مجتمعاتنا ستبقى بلا فائدة، طالما ما يتم استقدامه من مناهج يتناقض مع ما يدغدغ انغلاق مجتمعاتنا الثقافي والمعرفي، بتعبير أدقّ: يتناقض مع طبيعة مجتمعاتنا نفسها، وهذا ما سيجعل المعرفة التي نتلقّنها معرفةً نظريةً مفصولة عن الواقع  وغير منتجة، هذه المعرفة ليست أكثر من مراكمةٍ مستمرة لغباءٍ يبدد الحياة، ببساطة؛ إنّ التعليم الذي نريده في مجتمعاتنا ينطوي على تناقض حادّ بين النتائج والمقدمات، إننا نريد نتائج التجربة اليابانية أو الفنلندية أو الكندية، أو أيّة تجربة متقدمة في ميدان التربية، دون الوقوف على الأسباب أو المقدمات الحقيقية لنجاح هذه التجارب.

اقرأ أيضاً: أزمة التعليم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وكيفية معالجتها
المقارنات الفارغة التي نعقدها تقوم حقيقةً على غياب التفكير النقدي؛ ففي معرض مقارنة المدرسة الفنلندية أو الكندية بمدارسنا، نجد أنّ المقارنات تنصبّ على البنية التحتية للمدرسة، وعلى الأساليب التربوية المتبعة، ونعتقد اعتقاداً خاطئاً؛ أنّه بتوفير ظروف معينة سوف تُحلّ مشكلة التربية والتعليم من جذورها، لكن هل بإمكان هذه الظروف أن تحلّ المشكلة حقاً؟ إذا نظرنا بعين متشككة؛ سنرى أنّ البنى التحتية والأساليب التربوية عوامل فعّالة، لكن ليس باستطاعتها أن تحلّ مشكلة التربية والتعليم بمفردها؛ فالبنى العميقة لمجتمعاتنا تتناقض مع المحتوى الديمقراطي للمناهج التي يتم استقدامها، وبوجود هذا التناقض لن تكون هناك فرصة واقعية لتطوير التعليم وربطه بالحياة.

البنى العميقة لمجتمعاتنا تتناقض مع المحتوى الديمقراطي للمناهج لهذا لن تكون هناك فرصة واقعية لتطوير التعليم وربطه بالحياة

فعندما تصف فنلندا منهاجها؛ بأنّه منهاج ديمقراطي ولا مركزي؛ فهي لا تتناقض مع حقيقتها الاجتماعية؛ إنها دولة برلمانية ديمقراطية ولا مركزية، وعندما تتكلم عن الصحة الجسدية والنفسية للمتعلم؛ فلأنها دولة تحترم حقوق الفرد، وتسعى جاهدة لتحقيقها، وعندما يقرّ نظامها إلغاء الامتحانات للمراحل التعليمية الأولى؛ فلأنّ نظامها التربوي، ابتداءً من الأسرة، نظام خالٍ من الخوف والتخويف، نظام يجرّم العنف ضدّ الطفل من أبسط أشكاله إلى أعقدها، وعندما تعلن أنّ أطفالها من أفضل القرّاء في عمر العشرة أعوام؛ فلأنّها دولة تقوم على حرية الرأي والمعتقد والصحافة الحرة، وعندما تتكلم عن رفاهية الفرد؛ فلأنّ الفرد هو الأولوية بالنسبة إليها.

اقرأ أيضاً: 6 طرق دولية مبتكرة لتطوير التعليم في المدارس

قبل أن نسأل ما الذي يجعل تجربة تعليمية متقدمة على تجربة أخرى؟ علينا أولاً أن نجيب عن سؤال: ماذا يعني الفرد بالنسبة إلى المجتمع الذي ينتمي إليه؟ فإذا كان هناك من يعدّ الفرد آلة تدعم الاقتصاد، أو عتاداً لحروبها، أو مجرد أرقام فائضة عن الحاجة؛ فإنّ مجتمعاً مثل؛ فنلندا يعدّ الفرد أولوية إنسانية؛ ابتداءً  بصندوق "كيلا" المزود بكل احتياجات المولود، الذي يجسد رمزياً فكرة المساواة بين الأفراد: "الكل يبدأ بهبة متساوية"، مروراً بما أعلنه سالبرغ: "نحن نؤمن بأنّ التعليم عامل أساسي لبناء الديمقراطية، وكلّ النتائج الأخرى التي يحققها التعليم، مثل التوسع في سوق العمل، ثانوية؛ حيث يكمن هدفنا الأساسي في تربية مواطنين صالحين وأعضاء ناشطين في المجتمع"، انتهاءً بما ورد في مجلة "نيوزويك" لعام 2010؛ أنّ فنلندا تعدّ "أفضل دولة في العالم من حيث الصحة والاقتصاد والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة، وثاني أكثر البلدان استقراراً في العالم".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية