فستان رانيا يوسف ومأزق السلطة الأخلاقية في مصر

فستان رانيا يوسف ومأزق السلطة الأخلاقية في مصر


09/12/2018

سلّطت واقعة ارتداء الممثلة المصرية رانيا يوسف لفستانٍ شفافٍ، في حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، الضوء على الموقع الذي تحتله الحرية الشخصية في المجتمع، وعلى الشكل الأمثل للجسد في أطر عمل الدولة في مصر والتي تحتكر تعريف الأخلاق وصيانتها وتحاول فرض التجانس بواسطة القانون وأجهزتها الأيديولوجية، وفي النهاية على طبيعة القضايا التي باتت تشغل الرأي العام في مصر.

اقرأ أيضاً: صراع التنورة والحجاب: هل بات مظهر المرأة مقياساً للنهضة؟

وانتشرت صورة الفستان على نطاق واسع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ووصف من جانب البعض بـ "الفاضح"، وتقدم ثلاثة محامين مغمورين ببلاغ ضد الفنانة بتهمة "الفعل العلني الفاضح والإساءة للمرأة المصرية"، وحددت محكمة جنح مصرية جلسة في 12 كانون الثاني(يناير) المقبل للنظر في دعوى الاتهام، لكن تم التراجع عن ذلك، بعدما قيل عن اعتذار الفنانة.

ومن جانبها، أصدرت نقابة المهن التمثيلية المصرية بياناً عبرت فيه عن انزعاجها من مظهر بعض ضيفات مهرجان القاهرة السينمائي وأيضاً عن انزعاجها من وصول الأمر إلى قاعات المحاكم ونيتها إرسال فريق من المحامين للدفاع عن الممثلة.

قضية فستان رانيا يوسف سلطت الضوء على الموقع الذي تحتله الحرية الشخصية في المجتمع، وعلى الشكل الأمثل للجسد

وفي هذا السياق، أصدرت رانيا يوسف بياناً أوضحت فيه أنها لم تقصد الإساءة إلى  "قيم المجتمع وأخلاقه القويمة".  وفي لقاء مع الإعلامي عمرو أديب، اتهمت يوسف، أحد مصوري المهرجان، بتعمد تصويرها من الخلف.

جاء رد فعل رانيا يوسف على الحملة الشرسة ضدها محافظاً إلى أبعد حد، رغم موقعها التقدمي المفترض -باعتبارها فنانة- في المجتمع، وهو رد فعل متفهّم تماماً في إطار شراسة  الهجوم الذي تعرضت له، ويشير إلى ميل اجتماعي لديها لتحاشي الاصطدام بالجماهير.
وقد حظيت  "الواقعة"  وعلاقتها بالحرية الشخصية والعادات المجتمعية بنقاش واسع شارك فيه ممثلون وصحفيون وشخصيات عامة.

أكثر من صرف انتباه

ذهبت بعض التفسيرات التي تبناها النشطاء السياسيون في مصر بشأن الحملة، وكان من بين هؤلاء الروائي المصري علاء الأسواني، إلى أنّ الدولة تحاول تشتيت انتباه الجمهور العام عن الأزمات السياسية والاقتصادية التي تعانيها البلاد. غير أنّ هذا النوع من التفسيرات لا يكفي لفهم طبيعة الحدث؛ فالإقدام على عقاب الممثلة اجتماعياً - إلى الآن - لم يكن فقط وسيلة تشتيتية بقدر ما هو جزء لا يتجزأ من محاولة الدولة الحديثة السيطرة على أجساد مواطنيها التي هي موضع مراقبة دائمة من قِبلها، إذا نظرنا بعدسة المنظر الفرنسي ميشيل فوكو.

اقرأ أيضاً: هل ماتت الأخلاق في عالم السياسة؟

وكان الهوس الأخلاقي في مصر قد ازداد منذ العام  2013، مثلما ظهر مع قضية "السينجل مازر" وظهور الفنانة رحمة حسن بـ "المايوه" واعتذار الممثلة غادة عبدالرازق بعد أن انتشر مقطع يظهر جزءاً من صدرها، وذلك بالتزامن مع محاولات بسط السلطة الضبطية لأجهزة الدولة بهدف عكس صورةٍ راسخة للأخلاق والتدين.  ويهدف النظام السياسي من وراء ذلك للمحافظة على الحد الأدنى من القبول الشعبي لدى الأغلبية المحافظة من خلال طرح نفسه كراعٍ للأخلاق العامة، في وقت يحاول فيه بناء سرديته كنظام  "متفتح"  على عكس سابقه المتطرف الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين إقامته في البلاد.

الحملة على رانيا يوسف لم تأت من جانب التيارات الدينية وإنما من جانب صحفيين وطلاب وأناس عاديين

وكلما ازدادت الوقائع التي  "تستفز" الضوابط التنظيمية والقيم الأخلاقية التي تتمثلها الدولة وترعاها، يزداد تشديد السيطرة على الأجساد.  وقد جاءت واقعة  "فستان رانيا يوسف"  كتتويج لممارسات السلطة الأخلاقية على الأجساد العصية على الضبط.

في الخطاب السياسي الرسمي، تُدمَج السردية الأخلاقية عن "الشعب المصري المحافظ" بالخصوصية القومية التي تتطلب الاختلاف والتباين مع المعايير الحقوقية الليبرالية، وذلك في وقت تتبنى فيه الدولة وخطابها الرسمي أجندة النيوليبرالية الاقتصادية بأكملها، وهو ما يلفت النظر إلى قصور فهم تداعيات النيوليبرالية على البنية الاجتماعية والتحولات الثقافية التي تمهد لها.

اقرأ أيضاً: كيف تكون الأخلاق بلا دين؟

يحتفي هذا الخطاب الرسمي بالوسطية الأخلاقية؛ فأثناء محاولته تبرير منع ارتداء النقاب في الأماكن العامة يلاحق أيضاً منتهكي الصيغة  "الملائمة" من الملابس. ويعبر هذا الواقع عن دولة تتبنى آليات الضبط بحق جسد المرأة المراد إدارته وفق ميراث الهوية الوطنية المتخيلة التي أرست نفسها باعتبارها هوية محافظة ورافضة للتشدد في آن.

تراجَع الإسلاميون، فمن حل محلهم؟

لا تقتصر أبعاد الموضوع على العلاقة بين الدولة القومية وإدارة الأجساد والسيطرة عليها، فالمزاج العام في مصر صار منذ عقود محافظاً إلى أبعد حد، ويربط كثير من المحللين السيسيولوجيين ذلك بالتأثير الوهابي على المجتمع بواسطة  "العائدين من الخليج" بالإضافة إلى ميراث الصحوة الإسلامية الأخلاقوي.

ذهبت تفسيرات تبناها النشطاء السياسيون بشأن الحملة إلى أنّ الدولة تحاول تشتيت انتباه الجمهور عن الأزمات السياسية والاقتصادية في مصر

إلا أنّ نمو النزعة الأخلاقية المحافظة بشكل أكبر، بالرغم من سقوط الإخوان المسلمين في مصر، يستدعي فهماً أكثر تعقيداً؛ فعلى إثر هزيمة كل محاولة تغييرية كبرى تنمو النزعة المحافظة في السياسة وتتشعب لتشمل الأخلاق وعلاقات العمل والعلاقات الأسرية، على افتراض أن الوضع القائم أفضل من عواصف التغيير التي لا يُعرف لها نهاية، فكما يقول المثل " الخوف الذي تعرفه خير من الخوف الذي لا تعرفه".

إنّ اللافت في الحملة على رانيا يوسف أنها لم تأت، كما هي العادة، من جانب التيارات الدينية (المتراجعة حالياً) وإنما من جانب صحفيين وإعلاميين وزملاء مهنة وطلاب وأناس عاديين؛ فالتراجع الذي أبدته رانيا يوسف كشف عن تراجع هائل للقيم الليبرالية في مصر، خصوصاً في ظل الضغوط الاقتصادية الهائلة التي خلقت هوة عملاقة بين طبقة الأثرياء وبين الأغلبية التي تزداد فقراً ومحافظةً وقد ملأها الحنق والغضب من كل مظاهر رفاهية الطبقة العليا وقيمها أيضاً.

الصفحة الرئيسية