ماذا نريد من المعرفة؟

ماذا نريد من المعرفة؟


10/10/2018

في خضمّ ما يحدث في الوقت الحالي، على مستوى الشرق الأوسط، من جملة الأحداث التي تعكس سخونة المشهد في مختلف التفاصيل؛ تتزايد وتيرة الانقلاب على جملة المفاهيم والمضامين، التي كانت في السابق بمثابة الخطّ الأحمر؛ والتي أصبحت مستباحة في النقاش العام في مختلف الأوساط؛ الافتراضية منها والواقعية، تلك المضامين التي تدخل في إطار الاعتقادات الدينية والثقافات والمفاهيم والأعراف الاجتماعية.

هذا الانقلاب الذي وصل مرحلة أن يكون ثورة من خلال الأعداد الكبيرة من أجيال الشباب الحاليين، والذي خلق زخم تناول هذه القضايا في مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، هو في حقيقته حتمية تاريخية نتاج تلك السلطات التي ساهمت في كبت عقول المجتمعات العربية والإسلامية، وقمع لإرادات أفرادها وطموحاتها، كانت من الممكن أن تخلق مسارات أخرى.

إنّ الواقع الحالي يحتّم على الجميع خلق مسار نقدي حقيقي وإنتاج جديد للمعرفة

هذه السطور، وما ورد فيها، قد تكون معلومة لدى الكثير من الخائضين في هذه الثورة، لكنّها تمهِّد لأحد إشكالاتها، التي تتجلى في الوقت الحالي، في تناولات القائمين على أمر هذه الثورة، والإشارة هنا لمن يحملون كمّاً كبيراً من الزخم المعرفي، مهما اختلفت مسمّياتهم؛ (مثقفون، باحثون، مفكّرون، ...إلخ).

والمعلوم أنّ الثورة الحالية نتجت من تزايد الانفتاح المعرفي، كلّما تقدّم الزمن كجزء من حتمية التطور المتزايد، خصوصاً المرتبط بالتكنولوجيا والإنترنت؛ الذي ساهم في فتح باب المعرفة على مصراعيه لجميع مستخدميه.

اقرأ أيضاً: بين الجهل والمعرفة: الأمّي والمتعلم في خندق واحد!

الحاجة للزخم الكبير من المعرفة أمر ضروري؛ بديهية لا ينكرها إلا مكابر في طريق التطور، الأمر الذي أصبح بمثابة اليقين لكلّ من قرّر الدخول في هذه الثورة؛ بدايةً من تلك التساؤلات التي تطرق رأسه بخصوص تلك المضامين التي نشأ عليها.

وما يحدث في الوقت الحالي؛ حالة من الفوران، تتجلى فيما يتم طرحه في مواقع التواصل الاجتماعي، خلقت صراعاً عنيفاً بين المتمردين على المفاهيم التقليدية، والمدافعين عنها، وخير مثال عليها ردود الأفعال الأخيرة التي أعقبت حلقة برنامج "شباب توك"؛ التي كانت بعنوان "ماذا تريد المرأة السودانية"، والتي كانت إحدى فتياتها "وئام شوقي" بمشهد حوارها مع رئيس هيئة علماء السودان.

ما يتم طرحه في مواقع التواصل الاجتماعي خلق صراعاً عنيفاً بين المتمردين على المفاهيم التقليدية والمدافعين عنها

ومثل هذه الصراعات التي نعيشها في الوقت الحالي لا دواء لها إلا المعرفة، وهذا ما ينبغي أن يدركه الجميع؛ للوصول إلى تلك النقطة التي ترشدنا إلى طريق التطور على كافة المستويات، للّحاق بعجلة التقدم التي يسير بها العالم في الوقت الحالي.

والإشكال أو الخلل لا يكمن في فهم الحاجة للمعرفة، إنما يكمن في كيفية توظيف هذه المعرفة على أرض الواقع، الأمر الذي يظهر في تناولات المثقفين لحصيلتهم المعرفية.

فسُنَّة التغير مع مرور الزمن، يُحتِّم على البشرية توظيف المعرفة بتلك الطريقة التي تساهم في التطور، ما يعني ضرورة تحليل ما يكمن اكتسابه من الكمّ المعرفي الكبير، من مختلف التجارب الإنسانية، وإسقاطها على الواقع الواجب الحضور فيه.

اقرأ أيضاً: التكنولوجيا والثقافة: من يخلق الآخر؟

لكنّ المشكلة تكمن في تناولات الكثير من المثقفين من جيل الشباب الحاضر، لكمّ المعرفة الهائل، بمعزل عن أرض الواقع؛ فالواقع السودانيّ، كمثال حاضر ضمن دول الشرق الأوسط التي تشهد ثورة الانقلاب على المضامين التقليدية، يحتاج إلى دراسة عميقة لمختلف تفاصيله الثقافية والاجتماعية، كجزء من ضرورة التغيير.

فالمجتمع السوداني؛ مجتمع معقّد بإثنياته المختلفة في هذه المضامين التقليدية، حتى إن كانت حاضرة في معظم إثنياته في نطاق جغرافي واسع، كقضية زواج القاصرات؛ وهي قضايا تؤثر وتتأثر بتفاصيل أخرى، كالتعليم مثلاً؛ الذي تُحرَم منه النساء اللاتي يتزوجن في سنّ مبكرة، في الوقت الذي تشهد فيه الجامعات السودانية حضور طاغٍ للمرأة.

إضافة إلى السلطة الدينية التي تُسيطر على العديد من الإثنيات المختلفة في السودان (والتي قد لا تجد لها وجوداً طاغياً في إثنيات أخرى)؛ وهي السلطة التي أخرجت بعض القضايا، التي سلّطت الضوء على خلاوي السودان، القائمة على تعليم القرآن للأطفال، إضافةً إلى مساهمتها في تشكيل المجتمع في نطاق ضيق من الوعي، في الوقت الذي تحضر فيه السلطة الدينية في مواقع جغرافية، لكن بشكل آخر، مثلما هو الحال مع المؤسسات التي تنشر تلك الخطابات المتشددة، التي كان آخر نتائجها انضمام الشباب لداعش.

إن الصراعات التي نعيشها في الوقت الحالي لا دواء لها إلا المعرفة وهذا ما ينبغي أن يدركه الجميع

وفي الوقت الذي تحضر فيه هذه الأمثولات وغيرها، التي تُحتِّم على المثقفين تناولها بشكل معرفيّ، بزخم كبير، مما تم الوصول إليه من مختلف التجارب الإنسانية؛ من نظريات وتحليلات تساهم في خلق حراك حقيقي للتغير على مستوى المجتمع، ينعزل غالبية مثقفي الجيل الحالي فيما تمّ التحصّل عليه من مختلف تجاربهم المعرفية؛ التي قد تكون بعيدة عن أرض الواقع.

فقد ينقضي الكثير من الوقت بالنسبة إلى بعض مثقفي الجيل الحالي، في طرح ومناقشة بعض النظريات والمفاهيم، التي تم تجاوزها لفترة زمنية طويلة، بحكم التطوّر، لبعض الدوافع التي تعميهم عن الواقع الحالي، في إطار قد لا يتطلب فترة طويلة من الزمن، والذي على الأغلب يكون إطار نقد ما تمّ اكتسابه معرفياً، مثلما هو الحال مع مفهوم العلمانية؛ الذي ما يزال يرهق الجميع عند طرحه، أو ما أنتجه كارل ماركس الذي ما يزال محلّ جدل كبير بين المؤمنين به والمعارضين له، في الوقت الذي تحكم فيه الرأسمالية العالم بامتياز، أو تأصيل المجتمع بالعودة للحضارات القديمة، في الوقت الذي أصبح فيه الإنسان هو الهوية في العديد من دول العالم الأول بغضّ النظر عن أصله.

اقرأ أيضاً: صادق جلال العظم: حطم أوثان الفكر التقليدي وثار على القبائل السياسية

إنّ الواقع الحالي يحتّم على الجميع خلق مسار نقدي حقيقي، وإنتاج جديد للمعرفة، بحسب هذا الواقع، في هذا العصر الذي سمِّي "عصر السرعة"، نتاج ما وصل إليه من تطوّر، الأمر الذي ما يزال المثقفون بعيدين عنه فعلياً.

 

 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية