المرجئة.. النشأة والأفكار: هل تستعيد "الفرقة الضالة" اعتبارها؟

المرجئة

المرجئة.. النشأة والأفكار: هل تستعيد "الفرقة الضالة" اعتبارها؟


02/10/2018

شهد القرن الأول على ظهور الإسلام حالةً من الاستقطاب السياسي، تمثل بظهور مجموعة من الفرق تطرفت في حكمها على غيرها كما يسجل المؤرخون، كالشيعة، والخوارج، والسنة، حيث ذهبت كل منها إلى أن لا إسلام صحيحاً لا تمثله إلا هي، وباسم هذا الإسلام، قتل السنة من الشيعة، والشيعة من السنة، أما الخوارج فأعملوا سيوفهم ما استطاعوا في الطرفين، وبقيت طائفة أخرى تثير الجدل؛ هي المرجئة.
النشأة بين السيوف
يختصر رفع المصاحف على أسنّةِ الرماح، في معركة صفين بين أنصار علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان العام 657 م مرحلة سياسية مضطربة امتدت من العام 650 م إلى العام 660 م، عندما لجأ معاوية وجيشه إلى هذه (الخدعة) العبقرية باقتراح من عمرو بن العاص.

تحولت الفرق الإسلامية إلى جماعاتٍ تحاكم بعضها البعض بتهمة الخروج عن الأمور الدينية والميل إلى الأمور الدنيوية

تلك الواقعة، تشير بوضوح إلى الوضع السياسي والديني آنذاك، الدين تفرق بين الفِرق، فتحولت إلى جماعاتٍ تحاكم بعضها البعض بتهمة "الخروج عن الأمور الدينية والميل إلى الأمور الدنيوية" وفقاً للمؤرخ محمد الفيومي في كتابه "الخوارج والمرجئة"، الصادر عن دار الفكر العربي في 2003.
ويرى الفيومي أنّ "التمرد والتآمر السياسي والقتال من أجل الحكم، أسهمت جميعاً بالقضاء على وحدة الأمة"، ومن هنا خرجت الفرق لتدعو كل منها ضد الأخرى. ويشير كذلك إلى "قيام الأمويين باتباع نظرة شبه توفيقيةٍ للإسلام من وجهة نظر الدولة الأموية يؤيدها الكثير من العلماء"، أما الخوارج، فخرجوا على علي  بن أبي طالب، رضي الله عنه؛ لأنه قبل بالتحكيم بينه وبين معاوية رغم أنه الخليفة الشرعي، وخرجوا كذلك على معاوية لأنه اغتصب الخلافة بالقوة وفق رؤيتهم.

الفرق التي تفرقت وتطرفت قاتلت بعضها باسم الإسلام

ظهرت المرجئة، في فترة الفتنة هذه، وتأتي الكلمة لغةً من الإرجاء؛ أي التأجيل، بينما اصطلح عليها على أنها تعني "الإيمان قولٌ لا عمل، أي يكفي أن يؤمن الإنسان بالله قولاً عن طريق الشهادتين، أما عمله فغير محسوبٍ على إيمانه" بحسب ما ورد في كتاب "سير أعلام النبلاء" للذهبي.
ومن هذا الباب، دخل المرجئة عهد الخلاف بين الفرقِ على الحكم، واستخدامها الإسلام ضد بعضها البعض، فقال المرجئة إنّ علياً لا يضره عمله وكذلك معاوية، ويحق للإمامين أن يترشحا لخلافة المسلمين كلٌ في أرضه، معاوية في الشام، وعلي ومن معه في العراق والكوفة، أما أمر الفصل بينهما فيمكن إرجاؤه إلى الآخرة ليحكم فيه الله.

بدأ الإرجاء خلال فتنة علي ومعاوية حيث طالب المرجئة بتأجيل أمر خلافتهما إلى الله

وكان أول من قال بالإرجاء وفقاً لسفر الحوالي في كتابه "ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي"، هو الحسن بن محمد بن الحنفية، ويروي ابن عساكر في "تاريخ دمشق": "قال عثمان بن إبراهيم بن حاطب: أول من تكلم في الإرجاء هو الحسن بن محمد، كنت حاضراً يوم تكلم وكنت مع عمي في حلقته وكان في الحلقة جحدب وقوم معه، فتكلموا في عليّ وعثمان وطلحة والزبير فأكثروا، والحسن ساكت ثم تكلم فقال: قد سمعت مقالكم وأرى أن يرجأ عليٌّ وعثمان وطلحة والزبير فلا يتولّى ولا يتبرأ منهم ثم قال: فقمنا، فقال لي عمر: يا بني ليتخذنَّ هؤلاء هذا الكلام إماماً، فبلغ أباه محمد بن الحنفية ما قال، فضربه بعصاً فشجه وقال: ألا تتولى أباك عليّاً، ودخل ميسرة عليه فلامه على الكتاب الذي وضعه في الإرجاء، فقال: وددت أني كنت متُّ ولم أكتبه...".
لكن الشيخ هبة الله اللالكائي الشافعي في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" يرى أن الإرجاء الذي تقدم به الحسن بن الحنفية لم يكن له أدنى علاقة بالإيمان، وليس هو الإرجاء الاصطلاحي الذي ظهر بعد ذلك، وإنما كان عبارة عن تأخير الحكم على الحكمين حتى يحكم الله عز وجل فيهما.

اقرأ أيضاً: المعتزلة قادوا ثورة العقل لتعرية ظلم السياسة ومفاسدها
وخارج إطار الخلاف السياسي بين علي ومعاوية، يقول أبو يعقوب إسحق بن راهويه في كتاب "حلية الأولياء": المرجئة يرون أن من "ترك الصلاة والصوم والزكاة وعامة الفرائض بدون أن ينكرها على الناس أو يجحد بها، فإن هذا ليس بكافر، إنما يُرجأ أمره إلى الله"؛ أي أن الله وحده يقرر بشأنه، ولا حكمٌ بشري، يسبق حكم الله على أي إنسان.
وفي زمنٍ كان الجميع مشغولاً فيه بأخذ حصةٍ من الإسلام ليفسرها ويفرضها بحسب مصالحه ومصالح فرقته، تنازل المرجئة كما يتضح عن حصتهم هذه إلى الله، معتبرين أنه إذا كان الحكم لله وحده، فلا بدَ إذن من ترك أمر إيمان المرء من عدمه إلى الله نفسه، أما الناس، فأعلم بأمور دنياهم وأعمالهم.

الفصل بين الدنيا والآخرة
لا يمكن قياس فكر اليوم بالماضي، أو مقاربة أيهما بالآخر خارج ظروفه التاريخية ووقائعه الخاصة التي أنتجته، لكن عرض الوقائع التي تشكلت حولها المرجئة يكشف أنهم اتخذوا موقفاً جريئاً منذ بدايات تسييس الإسلام، فنبذوا التطرف وحاولوا التقرب إلى الله من خلال نبذ أجواء الفزع والخوف التي سادت بين المسلمين بفعل القتال على الخلافة.

حاول المرجئة تخليص أمور الدنيا من سيطرة الدين الذي تفرضه الدولة

بل يذهب البعض أن مواقف المرجئة تقود إلى فكرة متقدمةٍ تدور حول (حرية الفرد) وعدم ضرورةِ انتمائه لأي فرقةٍ من باب السياسة والحكم أو من باب أن فرقةً بعينها تقدم الدين الصحيح، وهو ما يقود كذلك إلى التعددية، من خلال نبذهم للتساؤل التاريخي الذي عمل على تشظية المسلمين لقرون، وهو سؤال؛ من المسلم الحقيقي؟ الذي أجلوه وتركوا أمره إلى الله وحده. وهم بذلك، فتحوا أيضاً الباب واسعاً للفلسفة والتأويل والكلام، مما جعلهم من "الكلاميين"القريبين إلى المعتزلة كما رأى فيهم ابن حزم الأندلسي.
فالجرأة في إرجاء الأمور وعدم حسمها، يقود كفكرةٍ إلى المزيد من التنوع في الآراء وطلب التطور الفكري وعدم حصره في حكمٍ شرعيٍ محدد بالصحيح أو بالباطل. ويقود بالتالي إلى فرز قوانين اجتماعية موضوعية ناتجةٍ عن إرادة الأفراد وحاجاتهم.

ظهر المرجئة في زمن من الفتنة السياسية المتذرعة بالدين

ومن الواضح، أن تاريخ أي ديانة، تأسست في أعقابها دولة إن صح التعبير، شهد فرض دينٍ عامٍ للناس كما فعل الأمويون في عهدهم ومن بعدهم العباسيون، لذلك، تم اعتبار المرجئة فاسقين، حيث يبرر الفيومي في كتابه ذاته، أن "ابن تيمية مثلاً، اعتبرهم ممن يمنحون الفساق فرصة ليطمعوا بعفو الله، كما أن الدلائل لدى ابن تيمية تشير إلى براءة الصحابة منهم".

يقود الإرجاء إلى التنوع والتعددية والتأويل لكن المرجئة اعتبروا فاسقين كما رأى ابن تيمية

وينقل ابن كثير، في كتابه "البداية والنهاية" عن ابن شميل قوله "الإرجاء دينٌ يوافق الملوك، يصيبون به من دنياهم، وينقصون به من دينهم"، ويذهب ابن شميل في رأيه إلى أن المرجئة لم يتخذوا موقفاً واضحاً من معاوية، ولا حتى من علي، وهم بهذا يطيعون أي حاكم كان، مصلحاً أم مفسداً، وهنا يقع التناقض الذي يوضح رغبة كلٍ من خلفاء الأمويين وسواهم بفرض تدينٍ يخدمهم، بينما توجه المرجئة إلى إلغاء شروط أي نوعٍ من التدين، إلا في حال كانت الظروف السياسية أجبرتهم على ما قاله ابن شميل.
يبدو  أن العديد من هؤلاء الرواة القدماء أو المؤرخين بأي حال، تجاهلوا المحاولة المضمرة لدى المرجئة، لتخليص أمور الدنيا من سيطرة الدين الذي تفرضه الدولة وذلك بقولهم أن الإيمان مسألة غير قابلةٍ للقياس، أو إبداء حكمٍ مطلقٍ حولها.
فهل كانت هذه المحاولة، لو نجحت، ستقود إلى دولةٍ تفرض فيها الدنيوية قوانينها، وتترك الأحكام الدائرة حول الإيمان والتدين للآخرة أو أنها لا تكون بمعنى آخر خاضعة لقرارات الأفراد وأحكامهم على بعضهم؟ يبدو هذا الاحتمال بعيد المنال في وقتٍ كانت الدولة التي يطمح إليها الأمويون تلقى معارضةً شديدة، وهذا لم يترك لديهم أي خيارٍ سوى تبني رواية محددة عن الإسلام وفرضها بالقوة.

اقرأ أيضاً: "المهمشون": المعارضة المنسية في التاريخ الإسلامي
وهو ما جعل عدداً من المؤرخين وعلماء الإسلام منذ ابن تيمية وحتى سفر الحوالي، يتهمون المرجئة بالكفر تارةً، وبالفسق والتأليب على الفتنةِ تارةً أخرى، رغم أنهم ليسوا من حملةِ السيوف، وليسوا ممن تبنوا رواية إسلامية معينة ليخرجوا كل من هو ضدها عن الإسلام.
ويذهب ابن تيمية بالذات لما هو أبعد، فيرى أنهم "أول من قال إن الإمام تجب طاعته في كل شيء، وأن الله إذا استخلف إماماً تقبل منه الحسنات وتجاوز له عن السيئات"، لكن العديد من أعلام المرجئة وعلمائهم، مثل أبي الحسين الصالحي، ويونس السمري، وأبي ثوبان، والحسين بن محمد النجار، لم يأت ذكرهم في كتب هؤلاء المؤرخين، إلا وحضرت معهم الزندقة أو الفتنة.

الصفحة الرئيسية