تعرف على قصة حياة "شيخ النُقّاد والمحققين العرب".. إحسان عباس

تعرف على قصة حياة "شيخ النُقّاد والمحققين العرب".. إحسان عباس


04/09/2018

مرّت مطلع الشهر الماضي الذكرى الخامسة عشرة لرحيل أستاذ الأدب العربي إحسان عباس، الناقد الأدبي والمحقق والمترجم الذي لازمه طوال حياته شعور الغربة الدائمة وفقدان الوطن، وكان مثالاً على ذلك الفلسطيني الذي هُجّر من أرضه من غير أن يحول ذلك دون إبداعه، وهو ما صنعه عباس في مسيرته الطويلة مع العلم، والتأليف والنقد والترجمة والتحقيق، ليختم مسيرته برصيد يربو على مئة عمل، وليستحق بذلك لقب "شيخ النُقاد والمحققين العرب".
"عين غزال".. بداية الطريق
في قرية "عين غزال" الواقعة إلى الجنوب من حيفا، بين جبل الكرمل وساحل البحر، ولد إحسان عباس العام 1920، في فترة شهدت فيها البلاد تحولات كبرى، مع نهاية زمن الحكم العثماني وبداية عهد الانتداب البريطاني، كان أهل القرية فلاحين بسطاء، يمتهنون الرعي والفلاحة، ارتبطت حياتهم بالأرض بالأساس، وكان التعليم بينهم نادراً، وتسود بينهم معتقدات وممارسات التدين الشعبي، الذي يختلط بالخرافة والأسطورة، ويتمحور حول التبرك بالأولياء وزيارة الأضرحة، وكان من حسن حظ إحسان أنّه ما أن وصل السادسة من العمر حتى كان أهل القرية قد أتموا بناء مدرسة حديثة بمبادرة منهم، فأتيحت له فرصة الدراسة فيها، وكانت تلك بداية طريقه الطويل في رحلة العلم.

جانب من آثار قرية "عين غزال" المهجّرة كما تبدو اليوم

بين حيفا وعكا.. من عالم القرية إلى عالم المعرفة
لم تكن مدرسة القرية تشمل إلا الصفوف الدراسية الأولى، وفي العام 1930 انتقل إحسان لمواصلة تعليمه في مدينة حيفا المجاورة، ويحكي في سيرته "غربة الراعي" أنّه ربما كان أول طالب في قريته يهاجر للتعلم، وكانت هذه الرحلة البداية الحقيقية للانتقال من عالم القرية إلى عالم المعرفة، كانت حيفا بالنسبة له، وهو الآتي من مجتمع قروي بسيط، مدينة كبيرة وحياتها مختلفة، وهناك بدأت أحاسيس الاغتراب بالتخلل إلى نفسه، حيث كان "فلاحاً بين المدنيين".

كان انتقال عباس للدراسة في حيفا انتقالاً من عالم القرية إلى عالم المعرفة

في ذلك الوقت كان قد تم افتتاح ميناء حيفا الحديث، وكان لذلك أثره في تزايد فرص العمل وأعداد المهاجرين من الريف إلى المدينة،  كما كانت مدينة حيفا قد شهدت خلال الفترة ذاتها هجرة أخرى، وهي هجرة اليهود القادمين من ما وراء البحار، كلّ ذلك إلى الإسراع من وتيرة التغيرات والنمو السريع في المدينة.
بالنسبة إلى إحسان كانت الحياة في مدينة حيفا تعني الذهاب إلى دور السينما لمشاهدة الأفلام الصامتة مع الأصدقاء، وخاصة أفلام شارلي شابلن، التي كانت ذائعة الصيت آنذاك، إضافة إلى جلسات سماع المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية وأغاني الطرب بواسطة جهاز الفونوغراف، كما كانت تصل إلى حيفا آنذاك أهم المجلات الثقافية والعلمية من مصر، فكان ذلك بداية عهد اهتمام عباس بقراءة المجلات الأدبية، وكان لمجلة الرسالة تأثير كبير على ثقافته، حتى سمّاها "المعلم الأكبر"، ففيها كان يطلع على السجالات الفكرية الدائرة بين كبار الأدباء المصريين كطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي، وأحمد حسن الزيات، وزكي مبارك. وفي حيفا درس عباس على أستاذ الدين تقي الدين النبهاني، كما كان يحضر خطب عز الدين القسام في جامع الاستقلال قبل استشهاده العام 1935.

اقرأ أيضاً: قضايا الحسبة في مصر: أئمة التكفير يعتقلون العقل النقدي
وفي السنة الدراسية الأخيرة انتقل عباس مع مجموعة من زملائه للدراسة في ثانوية عكا، مع بقائهم مستقرين في حيفا، فكانوا يسافرون يومياً بالقطار إلى عكا، وكان أقرب زملائه في تلك المرحلة إميل حبيبي، الذي أصبح لاحقاً من أهم قيادات الحزب الشيوعي.

كان انتقال عباس للدراسة في حيفا انتقالاً إلى عالم المعرفة

القدس.. ملتقى نخبة الطلبة
كانت الكلية العربية في القدس تُخصص مقعدين لثانوية عكا، وهو ما سبّب الإحباط لعباس الذي حصل على المركز الثالث، ولكن في ذلك العام قرّرت الكلية منح أربع مقاعد للثانوية، وهو ما أنقذ عباس من الإحباط بعد أن بدا أن مسيرته العلمية كانت على مشارف النهاية، وهكذا اتجه العام 1937 إلى القدس للالتحاق بالكلية العربية، والتي كانت آنذاك ملتقى النخبة من جميع طلاب المدارس الحكومية بفلسطين، وقد أمضى فيها أربعة أعوام حتى العام 1941.

كان لمجلة الرسالة تأثير كبير على ثقافته حتى سمّاها "المعلم الأكبر" بالسجالات الفكرية بين كبار الأدباء المصريين

أتمّ عباس أول عمل له وهو ما يزال طالباً في الكلية، وكان ذلك بسبب تقصير أستاذ التاريخ، ما دفعه إلى ترجمة كتاب الدولة الأموية للمستشرق الألماني فلهاوزن، وذلك لمساعدة الطلبة على دراسة المادة المقرّرة، فكانت هذه المساعدة بداية مشوار عباس مع الترجمة. وكان من أقرب أصدقاء عباس في هذه المرحلة "جبرا إبراهيم جبرا" الذي صار لاحقاً من أشهر المترجمين والنقاد الفلسطينيين، إضافة إلى صديقه المقرّب ذي التوجه الثوري "صبري زيدان" الذي كانت حادثة استشهاده في ثورة الـ36 من أولى الصدمات التي تلقّاها عباس في حياته.

التحق إحسان عباس بالكلية العربية في القدس

صفد.. ملازمة البحث والبعد عن السياسة
بعد التخرج من الكلية العربية، بدأ إحسان عباس مشواره العملي مدرساً في ثانوية صفد، واستمر في موقعه مدة خمسة أعوام، وكانت تلك الفترة فرصة للتوسع في المطالعة والبحث؛ حيث ترجم كتاب "فن الشعر" لأرسطو، كما وضع كتاباً عن أبي حيان التوحيدي، إضافة إلى اهتمامه بالمطالعة في مدارس علم النفس الحديث، وهو ما انتهى به إلى إعداد دراسة فريدة من نوعها آنذاك، سلّط فيها الضوء على التحليل النفسي عند الجاحظ.

التحق إحسان عباس بالكلية العربية في القدس التي كانت ملتقى النخبة من طلاب المدارس الحكومية في فلسطين

وكانت الأربعينيات فترة مضطربة على الصعيد الدولي؛ حيث كانت أحداث الحرب العالمية تعيد تشكيل النظام العالمي، وعلى الصعيد المحلي، شهدت تلك الفترة تصاعد المد الحزبي بين الطلبة والمعلمين، من الحزب الشيوعي، إلى جماعة الإخوان، إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي، ويؤكد عباس في سيرته "غربة الراعي" على بُعده آنذاك عن السياسة والأحزاب، وهو ما يفسّره بمنزعه المثالي والرومانسي، الذي لم يستطع معه اتخاذ مواقف حاسمة من الواقع المتغير من حوله.
القاهرة.. فراق الوطن
تم ترشيح اسم إحسان عباس لنيل منحة الدراسة في جامعة الملك فؤاد الأول بالقاهرة وكان ذلك العام 1946، فكان ذلك آخر عهد بالوطن وبداية مسيرة الغربة، عاش عباس في القاهرة صدمة المدينة الكبيرة فافتتن في مظاهر الحداثة والتمدن، من مطاعم ومقاهٍ، ومسارح ودور سينما، وساحات وحدائق، وفيها أُتيحت له فرصة لقاء كبار الكتّاب والأدباء ممن كان يقرأ لهم سابقاً في المجلات، وفي الجامعة كان عباس يحرص على حضور محاضرات شوقي ضيف، وأمين الخولي، وسهير القلماوي، ويروي عباس أنّه لازم أحمد أمين فترة وكان أمين يعاني ضعف النظر، فكان يقرأ عليه ويدوّن له، وكان مما أملى عليه سيرته الذاتية الشهير التي نشرت في كتابه "حياتي".

اقرأ أيضاً: محمود أمين العالم: الفكر خارج عباءة السلطة
وبعد انتهاء سنوات البكالوريوس عمل عباس على إعداد رسالة الماجستير، والتي كانت بعنوان: "الأدب العربي في صقلية الإسلامية"، وكانت المصادر والمراجع قليلة في هذا الباب، ما دفع به للعودة إلى المخطوطات وتحقيقها، فكانت تلك بداية مشوار عباس في التحقيق، كما اضطر لدراسة اللغة الإيطالية لمطالعة كتابات الاستشراق الإيطالي، فتعلمها خلال ستة أشهر.
وبينما كان عباس يمضي في مسيرته العلمية في القاهرة جاءت أخبار النكبة العام 1948، وأخبار نزوح الأهل من حيفا إلى جنين ومن ثم اللجوء إلى العراق، كانت النكبة تعني فراق الوطن بلا رجعة، ووداعاً نهائياً لمراتع الطفولة والشباب في عين غزال وحيفا وعكا، ما ضاعف من شعوره بالغربة، الشعور الذي لازمه حتى وفاته.

أتيحت لعباس في القاهرة فرصة لقاء كبار الكتّاب والأدباء

مدرساً جامعياً.. من الخرطوم إلى بيروت
لم تتح لعباس فرصة التدريس في مصر، في المقابل، وبتوصية من شوقي ضيف، جاءته فرصة التدريس في "كلية غوردون التذكارية" بالخرطوم، فسافر إلى السودان العام 1951، ثم انتقل للتدريس في فرع الخرطوم التابع لجامعة القاهرة، وهناك درس الأدب الأندلسي، ومجدّداً واجهته مشكلة قلة المصادر المتوفرة، فكان ذلك بداية مشواره في الكشف عن المصادر المتعلقة بالأندلس وتحقيقها.

أتيحت له في القاهرة فرصة لقاء كبار الكتاب والأدباء ممن كان يقرأ لهم سابقاً في المجلات

وفي السودان بدأ اهتمام عباس بالكتابة والبحث في قضايا النقد الأدبي، فانشغل بدايةً بالكتابة في موضوع الحداثة الشعرية، وبالأخص ما يتعلق بالشعر الحديث في العراق، وكان حصيلة البحث كتابه النقدي الأول "عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث"، وكان عباس وفياً للبلد الذي استضافه، فلم يدخر جهداً في التعريف بالأدب السوداني من خلال الكتابة عنه في المجلات العربية، وتوجت كتاباته في كتاب "الثقافة العربية في السودان"، الذي عمل عليه مع زميله الدكتور عبد المجيد عابدين.
وفي العام 1960 انتقل إلى بيروت للتدريس في الجامعة الأمريكية، ويذكر عباس أنّه حين كان في مطار الخرطوم متجهاً إلى بيروت كانت تتردد في خاطره كلمات بيرم التونسي: "وشبعت يا رب غربة"، وكان الانتقال من السودان إلى لبنان انتقالاً من هامش العالم العربي إلى قلبه، أو كما يصفه عباس "الواحة الجميلة في العالم العربي يومئذ"، وفي بيروت كانت الإطلالة على البحر، تحرّك الذكريات والحنين إلى حيفا غير البعيدة.

في العام 1980 اختير عباس لنيل "جائزة الملك فيصل العالمية" تقديراً لمساهماته في مجال الأدب العربي

بقي عباس في بيروت مدة ربع قرن، كان من ضمنها عشرة أعوام في فترة الحرب الأهلية، يسميها عباس بـ "القسم الجهنمي"، وبالرغم من اشتعال الأوضاع، فضّل عباس الانشغال بالتدريس، وكتابة البحوث، وآثر الابتعاد عن الإعلام، والسياسة، وفي هذه الفترة بلغ الذروة في العطاء والإنتاج، ففي الترجمة ترجم كتباً مهمة كـ"مقال في الإنسان" لأرنست كاسير، و"دراسات في حضارة الإسلام" للمستشرق الإنجليزي هاملتون جب. وفي النقد كتب "تاريخ النقد الأدبي عند العرب" وكتابه الشهير "اتجاهات الشعر العربي المعاصر"، كما أنجز في هذه الفترة تحقيق المُطوّلات كـ"نفح الطيب"، و"معجم الأدباء"، و"وفيّات الأعيان"، و"الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، وفي العام 1980 اختير عباس لنيل "جائزة الملك فيصل العالمية" تقديراً لمساهماته في مجال الأدب العربي.

انشغل عباس في بيروت بالتدريس وكتابة البحوث وابتعد عن الإعلام والسياسة

عمّان.. المحطة الأخيرة
وفي العام 1985 انتقل عباس إلى محطة جديدة من محطات الغربة، إلى عمّان، وهناك عمل باحثاً متفرغاً ومدرساً في الجامعة الأردنية، وكانت العاصمة الأردنية أخف محطات الغربة وطأة، ففيها أحاطه الأهل والأحباب، وفي الجامعة الأردنية اجتمع مع ثلة من كبار الأساتذة كمحمود السُمرة، وناصر الدين أسد، وعبد العزيز الدوري، وفهمي جدعان، وانشغل عباس في هذه المرحلة بالكتابة والترجمة في تاريخ بلاد الشام، وفي العام 1993 نال الدكتوراة الفخرية من جامعة شيكاغو، كما حصل في العام ذاته على جائزة سلطان العويس تقديراً لجهوده الكبيرة في خدمة الأدب واللغة العربية.

أحاط الأهل والأحباب بعباس في عمّان فكانت أخف محطات غربته وطأة

وفي الأول من آب (أغسطس) العام 2003، رحل عباس عن عمر ناهز الثلاثة وثمانين عاماً، قضى جلها مغترباً، بعيداً عن وطنه، ولكن طالباً للعلم بين الكتب والمكتبات والجامعات، في الوقت ذاته، فلم تكن الغربة عائقاً له أمام مسيرة الإنتاج والإبداع، وكانت الحصيلة نحو مئة عمل نفيس، أثرت المكتبة العربية وخدمتها بما عجزت عنه مؤسسات.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية