النبي الشاكّ والإله المتسامح

النبي الشاكّ والإله المتسامح


05/01/2022

لن نكون مبالغين في التشاؤم إذا ما قلنا إنّ الإنسان المتسامح في عالمنا العربي لم يتبلور بعد بالصورة التي تجعل المجتمع والدولة في مأمن من اختراقات أفكار الإرهاب والقتل المجاني، الذي لا يعرف فيه القاتل حقاً لماذا قَتل، ولا المقتول لماذا قُتِل، في ظلّ انقسامات طائفية وأيدلوجية كبرى، تتمركز كلّ واحدة منها حول نفسها؛ حيث الأفكار والتصورات المغلقة أهم من حياة الإنسان نفسه وهي تزعم أنّها تنشد خلاصه وسعادته؛ فقلّما نجد من يتقبل الآراء الأخرى بصدر رحب وروح متعالية على الخلافات، خصوصاً تلك المتعلقة بالدين والنظر الفقهي.

قلما نجد من يتقبل الآراء الأخرى بروح متعالية على الخلافات خصوصاً تلك المتعلقة بالدين والنظر الفقهي

كثيراً ما نجد أنّ الإنسان يطابق بين ما يراه من فقه ويتخيله من دين من جهة، والله والدين أو المقدس من جهة أخرى؛ فإمّا أن ينطلق من خوف على أفكاره ورؤيته، ويترجم ذلك على أنّه إما خوف على الله، أو خوف منه؛ ففي الحالة الأولى ينصّب نفسه مدافعاً عن الله القدير، الذي ليس في حاجة إلى من يدافع عنه، وهنا يستبطن رؤية محدودة للخالق، تصوّره كما لو كان في حاجة لأن يوظّف البشر في قتال كبير فيما بينهم لأجله.

اقرأ أيضاً: الفيلسوف المسيحي وشيخه المسلم!

وفي الحالة الثانية يستبطن رؤية تجعله خائفاً منه في حال لم يدافع عنه، وفي كلا الحالتين تكون النتيجة نوعاً من الوصاية الإنسانية على الله والمقدس؛ إذ يعتقد من يجري عليه الموت والفناء أنّه يحمي خالق الموت والفناء والوجود والعدم، وكلّ تلك الأشياء العظيمة التي نراها في عالمنا وخارجه، وداخلنا نحن أيضاً، وقد تكفّل الله تعالى نفسه بسننه وقدرته الأزلية بالدفاع عن مبادئ الخير والعدل في الوجود، كما تكفل أيضاً بعدم إكراه الإنسان في اختياره لطريق الرشد أو الضلال، بما أودعه فيه من حرية اختيار للخير أو الشرّ.

كثيرون يستبطنون رؤية محدودة للخالق تصوّره في حاجة لأن يوظّف البشر في قتال كبير من أجله

تتحرك معظم الآيات القرآنية المتعلقة بالهدى والضلال والكفر والإيمان والشكّ، حول اختيار الإنسان نفسه لهذه الحالات القلبية، ونقول قلبية؛ إذ لا يجدي معها الإكراه الذي يجعل الإنسان ينطق بها؛ فالقول بالشهادة، أو الكفر بها، أمور لا يؤاخذنا الله فيها، بما أكرهنا عليه منها، وجرى على لساننا.

ونستذكر هنا قصة عمار بن ياسر الذي جارى المشركين في بعض ما أرادوا مكرهاً تحت التعذيب بعد أن قتلوا والديه؛ إذ كان يخشى أن يحاسبه الله على ذلك، وشكا ذلك إلى النبي، عليه السلام، فكان أول ما سأله عنه ما في قلبه، فوجده ما يزال محباً لله ورسوله، ليقول له النبي، عليه السلام، وهو المتفهم للطبيعة البشرية: إن عادوا فعد، وذلك يعني أنّ المهم حقيقة الإيمان الذي مكانه القلب، فلم تسلب قريش عماراً إيمانه بكلمات ظاهرة أرضتهم، ووفق هذا نخلص إلى القول: إنه لا يمكن لأحد أن يجبر أحداً على الإيمان أو الكفر، وإنّ الله سبحانه لا يؤاخذ الناس إلا بحقيقتهم التي تجول في دواخلهم، وسنجد في قصة إبراهيم، عليه السلام، سعة تسامحه تعالى وتفهمه للإنسان الذي خلقه.

تكفل الله بعدم إكراه الإنسان في قراراته بما أودعه فيه من حرية اختيار للخير أو الشرّ

تحمل مدوناتنا التاريخية قصة للنبي إبراهيم، عليه السلام، أنّه كان على خلاف مستمر مع سياقه الذي نشأ فيه ومعتقداته؛ فهو لم يستطع عبادة ما كانوا يعبدون، فتلك الآلهة لم تكن بالنسبة إليه ذات جدوى، فراح يمتحنها، ولما لم يتقبل القوم امتحان آلهتهم، قاموا بإيذائه انتقاماً منه وحماية لها؛ إذ إنّ الامتحان شكّل في دواخلهم جرحاً عميقاً؛ ففي النهاية هم الذي نطقوا بدل آلهتهم، التي عجزت عن الكلام والدفاع عن نفسها.

اقرأ أيضاً: الدين والعلم..علاقة اتصال أم انفصال؟

لم تكن هذه هي النهاية؛ أي تقويض سلطة الثقافة الجمعية المضللة وحسب؛ بل تحول الأمر عند إبراهيم إلى بحث عمّا يقرّ في قلبه، إنه حقاً الإله المطلق الكلي القدرة، فتأمّل في النجوم ونظر إلى الشمس، ورقّت عيناه أمام القمر، لكن كان لكل منها علته التي تركت في نفسه ثغرة تجاهها، هي ثغرة الشكّ، أي قابلية الاعتقاد أن يكون ما تقوم به أو ما تعتقده خطأ أو يعتريه النقص.

نجد في قصة إبراهيم عليه السلام سعة تسامحه تعالى وتفهمه لطبيعة الإنسان الذي خلقه

إنّ هذه الثغرة ظلت موجودة حتى لحظة تجلي قدرة الإله لإبراهيم في إحياء الموتى؛ فهي ثغرة بمثابة شعلة متقدة في العقل البشري، جعلت إبراهيم، عليه السلام، يطلب من الإله دليلاً يعزّز إيمانه فيزداد يقيناً برؤيته ما آمن به، متكئاً على تجارب سابقة، ولم يكن الإله العليم قاسياً تجاه عبده، مظهراً تسامحه بتلبيته طلب إبراهيم البشريّ الشاكّ، الذي لم يختر ذلك لمجرد الشكّ والمناكفة، إنّما أداة غائرة وعميقة بداخله للوصول إلى الحقيقة، يمتحن بها الأنساق والمقولات التي تريد فرض نفسها وقوتها وسلطتها.

اقرأ أيضاً: السعودية تقلب صفحة "الغفوة الإسلامية"

إنّ الشك هنا، لا يعني شيئاً سوى الطريق الذي لا ينتهي إلى الحقيقة، التي هي ليست فقط مجرد حصول اطمئنان خادع، بل اختبار مفتوح يتقبل التساؤل، باعتباره شعلة تضيء طريق الإنسان ومسيرته على الأرض.

لا يمكن لأحد إجبار غيره على الإيمان أو الكفر والله تعالى لا يؤاخذ الناس إلا بدواخلهم

علينا ألا نتحرج في أن نشكّ في أيّ من معارفنا وتصوراتنا، وطرق اكتسابها بهدف وضع أقدامنا على أولى عتبات الوصول إلى اليقين، وتفكيك فتنة الإعجاب بالرأي الذي يصادر على الآخرين حقهم في الاختلاف معنا، وأوصلنا إلى تلك التقسيمات الحدّية المتعسفة التي تزعم امتلاك الحقيقة المطلقة معرَّضة عالمنا للتشظي، وجاعلةً قابليتنا للضياع أمراً محتوماً.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية