محرّكات الغضب الإيراني.. لماذا الاحتجاجات؟

محرّكات الغضب الإيراني.. لماذا الاحتجاجات؟


27/06/2018

عمّق النظام الإيراني الانقسامات الاجتماعية في البلاد، بسبب إصراره على تفضيل الحلول والمقاربات الأمنية للمشكلات الداخلية العالقة؛ إن بهدف تفكيك وقمع القوى المناهضة للنظام في داخل المجتمع، أو بهدف عزل الفئات الغاضبة فيه عن بعضها، وعن باقي فئات المجتمع، وخفض دائرة المحتجين من أجل سهولة التصدي لهم.

وبينما ظلت رواية النظام تتبنّى حماية المستضعفين في الداخل والخارج طوال العقود الماضية من عمر الثورة، أظهرت الاحتجاجات الأخيرة بأنّ "القاع الاجتماعي" بات مُهدِّداً رئيساً لاستقرار النظام بطيفيه؛ المحافظ والإصلاحي. وتتمظهر الانقسامات الاجتماعية بشكل حاد في إيران على ثلاثة أسس؛ صراع الأرياف والمدن، وصراع الطبقات، والصراع الجندري.

أظهرت الاحتجاجات الأخيرة بأنّ "القاع الاجتماعي" بات مُهدِّداً رئيساً لاستقرار النظام بطيفيه المحافظ والإصلاحي

تؤكد الدروس المستفادة من تجارب الاحتجاجات الشعبية العديدة التي شهدتها إيران خلال العقود الماضية على أنّ أحد أهم أسباب نجاح النظام في إخماد الاحتجاجات هو استغلاله لـ "القطيعة السوسيولوجية" بين إيران المركز، وإيران الأعراق، وتعميقه للانقسامات الطبقية أفقياً وعمودياً.  وهو ما يحول دون انتشار الاضطرابات من مناطق الأكثرية إلى مناطق الأقليات، أو العكس. بحيث يتوفر للنظام إمكانية توظيف الأقليات لقمع المحتجين من الأكثرية، أو توظيف الأكثرية لقمع المحتجين من الأقليات. وبطبيعة الحال لا يتفاعل الطرفان (الأكثرية والأقليات) مع الاحتجاجات التي تظهر عن الطرف الآخر إيجابياً؛ لأن أسباب التحرك الاجتماعي في ضفتي هذه القطيعة مختلفة جداً.

اقرأ أيضاً: احتجاجات إيران.. الشارع ينفجر في وجه الملالي

وعلى سبيل المثال، في احتجاجات كانون الثاني (ديسمبر) 2017، أحجمت الأقليات القومية والدينية عن التفاعل مع الأكثرية؛ بسبب هذه القطيعة إلى جانب أن طبيعة الشعارات السياسية التي أطلقها المحتجون، كانت تعبر فقط عن مطالبات القومية الفارسية، وتتجاهل القوميات الأخرى. ومن جانب آخر كان الانتشار الجغرافي لاحتجاجات 2017 واسعاً جداً في الأطراف؛ حيث الطبقات الفقيرة والمعدمة، لكنّ طهران ظلت هادئة إلى حدّ كبير. فيما تركزت احتجاجات اليومين الماضيين في أسواق العاصمة طهران حيث تصدّر المشهد تُجّار البازار من الطبقة البرجوازية، ولم تمتدّ هذه الاحتجاجات حتى الآن إلى الأطراف. وهو ما يُظهر الانقسام الطبقي الحاد داخل المجتمع؛ حيث تُحجم الطبقات الفقيرة في الأطراف عن التفاعل مع قضايا الطبقات البورجوازية والمتوسطة في طهران والمدن الكبرى.  

ويمكن تقديم تفسيرات مختلفة للاحتجاجات التي تعصف بإيران منذ أواخر عام 2017، والتي عادت بحلة جديدة هذه الأيام. لكنْ ثمة منطلق مهم قد يكون أكثر إقناعاً، وربما منطقية في وضع الأحداث المذكورة ضمن إطار طبيعي ومُقنِع؛ ما يساعد على فهم أسبابها وتداعياتها بشكل موضوعي.

الاحتجاجات الأخيرة لم تكن سياسية بقدر ما كانت اعتراضاً على"السياسات النيوليبرالية" للفريق الاقتصادي للرئيس روحاني

وفق هذا المنطلق، فإنّ الاحتجاجات التي حدثت مؤخراً لم تكن احتجاجات سياسية، بقدر ما كانت اعتراضاً من طبقات اجتماعية بعينها على "السياسات النيوليبرالية" التي يطبقها الفريق الاقتصادي للرئيس روحاني، والمتمثلة في: التقليل من تدخل الحكومة في الاقتصاد، وتغليب كفّة أصحاب رؤوس الأموال مقابل القوى العاملة، وخفض الدعم الحكومي للبضائع، وإصلاح القوانين الجمركية، وتحرير سعر الدولار، وما إلى ذلك؛ مما قد يؤدي إلى موجات من التضخّم، وتسريح أعداد كبيرة من العمال، وتقلبات في سعر العملة الوطنية.

اقرأ أيضاً: هكذا حاول الإعلام المقرب من قطر اختطاف احتجاجات الأردن

لم يكن هذا النوع من الاحتجاجات الأول  في إيران؛ حيث شهدنا نموذجاً مشابهاً في بداية ومنتصف التسعينيات من القرن الماضي، وخاصة في العام 1995 في عدة مدن إيرانية. وهي الأحداث التي تُعرف عادة في التقويم الإيراني باضطرابات 1374، والتي راح ضحيتها العشرات من المواطنين والقوات العسكرية. وكانت اعتراضاً على التضخم، وموجة الغلاء والبطالة الناشئة عمّا يسمى "سياسات التعديل" التي انتهجها الفريق الاقتصادي في حكومة رفسنجاني، والتي أدّت إلى أكبر موجة تضخم في تاريخ إيران، وأثارت سخط الشارع حينها.

اللافت أنّ الفريق الاقتصادي لحكومة روحاني، هو نفس الفريق الذي كان مجتمعاً في حكومة رفسنجاني. هذا الفريق يتشكّل في الأغلب من "حزب العدالة والتوسعة"، و"حزب عمال البناء" اللذان ينظران إلى النيوليبرالية باعتبارها الطريق الوحيد لإنقاذ الاقتصاد الإيراني. وهما اليوم يحاولان تطبيق الرؤية ذاتها. وقد أدى نشاطهما إلى حدوث احتجاجات مشابهة لتلك التي حدثت في منتصف التسعينيات، كردة فعل اجتماعية على السياسات الاقتصادية للفريق نفسه.

تركزت احتجاجات اليومين الماضيين في أسواق العاصمة طهران حيث تصدّر المشهد تُجّار البازار من الطبقة البرجوازية

أدت احتجاجات 1995 إلى رفض اجتماعي لحكومة رفسنجاني، ولمرشحها للرئاسة في انتخابات 1997 (ناطق نوري)، وجرى انتخاب محمد خاتمي في انتخابات فسرها كثيرون آنذاك بأنّها انتخابات عنوانها "لا لرفسنجاني". ثم استطاع أحمدي نجاد أن يركب موجة الرفض الاجتماعي الواسع لهذه السياسات النيوليبرالية، وأصبح رئيس الجمهورية الذي يعيد الدعم النقدي إلى المجتمع. واليوم يبدو أنّ النموذج نفسه يتكرر.

وكان يمكن للإصلاحات النيوليبرالية أن تمضي قدماً دون كل هذه الأعراض الجانبية الخطرة، لولا وجود اختلالات عميقة في مختلف هياكل الاقتصاد الإيراني. ولعلّ أحد أهم مواطن هذه الاختلالات يكمن في النظام المالي الهشّ، والمفتقر للتوازن، والشفافية. وهو ما أنتج ظاهرة هروب رؤوس الأموال من الداخل إلى الخارج، وأسهم في تراجع التدفقات المالية والاستثمارات الأجنبية القادمة إلى الداخل.

اقرأ أيضاً: بانوراما العام الإيراني: تصعيد واحتجاجات زلزلت الجمهورية

في آذار (مارس) 2018، أعلن بعض نواب البرلمان الإيراني وعلى رأسهم محمد رضا بور إبراهيمي رئيس اللجنة الاقتصادية في البرلمان أنّ الأموال التي خرجت من النظام البنكي، ومن السوق المحلي إلى خارج البلاد بلغت نحو 30 مليار دولار في أقل من شهرين، بالتزامن مع أزمة العملة الإيرانية، وكسرها الأرقام القياسية بالتراجع، تحت وطأة الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي، وعودة العقوبات.

تكشف تقارير البنك المركزي الإيراني عن اختلال عميق في توازن التدفقات المالية من وإلى إيران

وتوضيحاً لذلك قال محمد رضا نوبخت، المتحدث باسم الحكومة، والذي يشغل منصب مساعد الرئيس الإيراني، ومدير ديوان التخطيط والموازنة: إنّ أغلب الظن أنّ هذا المبلغ تم صرفه على شراء العقارات والاستثمارات في بلدان أخرى؛ وهو ما تؤكده الأرقام الصادرة عن مؤسسات عالمية، إذ تشير إلى أنّ عملية شراء العقار على يد الإيرانيين في بلدان أخرى تضاعفت خلال الفترة الماضية. وذكرت مصادر صحفية إن من أهم المحطات التي تجذب الأموال الهاربة دولتي الجوار؛ تركيا والإمارات العربية المتحدة. لأسباب تتعلق بالمخاوف من انهيار اقتصادي في الداخل الإيراني، والرغبة في الاستثمار في البلدان التي تتمتع بالازدهار، وهو ما أكدته مصادر مستقلة في ظل صمت الحكومة الإيرانية. ولا تقتصر ظاهرة هروب الأموال على فترات العقوبات، لكن الوتيرة تشتد كلما تعرضت إيران للعقوبات، أو حدث تلويح بها.

وتكشف تقارير البنك المركزي الإيراني عن اختلال عميق في توازن التدفقات المالية من وإلى إيران؛ إذ تشير الأرقام إلى أن ّتوازن مسيرة رأس المال (فارق الاستثمارات الوافدة إلى إيران، ورؤوس الأموال المغادرة) كان 3.9 مليار دولار في عام 2013، ليكون 5 ملیار دولار في عام 2014، ثم 5.2 مليار دولار في عام 2015، و18.3 مليار دولار في عام 2016، إلى أن قفز ليصل 27 مليار دولار في العام الماضي؛ وهو ما يشير إلى وتيرة مرتفعة جداً في عملية هروب الأموال.

اقرأ أيضاً: ماذا يحدث في طهران؟

ويُعدُّ الفائض الكبير في السيولة النقدية مؤشراً قوياً على حالة الركود الاقتصادي المزمنة في إيران؛ إذ تُقدَّر السيولة في إيران بنحو 1560 ألف مليار تومان (ما يعادل 370 مليار دولار، وفقا للسعر الرسمي للدولار). وتسجلُ ارتفاعاً مطرداً عالياً، نسبته 20 في المائة سنوياً. وتقدر ودائع البنوك بنحو 1200 حتى 1300 ألف مليار تومان (نحو 280 إلى 310 مليار دولار)، بينما يُقدَّر حجم الأموال النقدية الموجودة لدى الناس بنحو 260 إلى 360 ألف مليار تومان (62 إلى 85 مليار دولار). ويمكن القول إنّ جزءاً لافتاً من حجم السيولة الموجودة لدى الشارع، وخارج البنوك، يحتفظ به الناس على شكل عملات أجنبية، وخاصةً الدولار؛ إذ يشير المساعد السابق لرئيس البنك المركزي الإيراني إلى أنّ الإيرانيين يحتفظون في بيوتهم بنحو 20 مليار دولار. كل ذلك يعني أنّ سعر العملة الإيرانية معرض للهبوط المستمر. بينما تُظهر النسبة الكبيرة من الدولارات بيد الشارع أزمة ثقة المواطنين بالبنوك، وبالعملة الإيرانية على حد سواء، والرغبة في الحصول على الدولار بغية الحفاظ على قيمة رؤوس أموالهم.

وخلاصة القول إنّ دينامية "الأزمات المتناسلة" ستبقى نشطة في إيران، اقتصاديا وسياسياًـ وبينما سيواصل النظام تطوير أدواته في إخماد الاحتجاجات، أو تفتيت القوى الاجتماعية المحركة لها، سيرتفع منحنى التعلم أيضاً لدى المعترضين، ولن يعرف الاستقرار طريقه إلى إيران في المدى المنظور.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية