"يحسبون كل صيحة عليهم": عن الهوس الإسلاموي بالانقلابات

"يحسبون كل صيحة عليهم": عن الهوس الإسلاموي بالانقلابات


22/04/2021

أحمد نظيف

كلما برز ت في المشهد السياسي التونسي قوة سياسية أو شخصية مناهضة للإسلام السياسي سارعت "حركة النهضة" من خلال شبكتها السياسية والإعلامية الواسعة إلى وصمها بالاستئصالية والإنقلابية، لكأن مفاهيم حداثية كالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية أصبحت حكراً على تيار الإسلام السياسي يحتكرها ويوظفها، كما احتكر ووظف طوال عقود، الدين ومعجمه لتوسيع قادته الشعبية من خلال الشعارات الشعبوية. ولعل استعمال المعجم الديني والقرآني أساساً في هذا السياق يمكن أن يلخص هذا الهوس الإسلاموي من كل تيار أو شخصية مناهضة للإسلام السياسي حيث يصف القرآن هذه البارانويا بوصف وجيز: "يحسبون كل صيحة عليهم".

مناسبة هذه المقدمة ما جرى وما زال يجري من صراع بين "حركة النهضة" والرئيس التونسي قيس سعيّد. الحركة الإسلامية التي بذلت الكثير من أجل أن يكون سعيّد رئيساً تحت شعارات النزاهة ومكافحة الفساد، انقلبت بعد شهور قليلة على الرجل باستخدام الشعارات ذاتها، ولعل هذا الانقلاب لم يكن غريباً عن الحركة، للعارفين بتاريخها الكبير في إزدواجية الخطاب، إلا أن السرعة التي تم بها تكشف عن عمق تغلغل النزعات النفعية والانتهازية داخل التنظيم الإسلاموي خلال السنوات الأخيرة، وهي نزعات أصبح يعاني منها أبناء الحركة أنفسهم، حيث نشهد صعوداً قوياً لتيار "عائلي" داخل الحركة مستعد للقيام بكل شيء من أجل الحفاظ على المصالح التي حققها منذ ثورة 2011.

الجولة الجديدة من الصراع بين سعيّد و"النهضة" بدأت قبل أيام عندما رفض الرئيس المصادقة على قانون المحكمة الدستورية، بعد أيام من تعديلات أجراها البرلمان على القانون، تشمل تخفيض الغالبية المطلوبة لانتخاب أعضائها من 145 إلى 131 نائباً، وهو تعديل فرضته الأغلبية بقيادة "حركة النهضة". ثم تصاعد بعد الزيارة التي قام بها سعيّد إلى مصر في 9 نيسان (أبريل) الجاري، وردت عليها الصفحات المقربة من "حركة النهضة"، على الشبكات الاجتماعية، بهجوم حاد. وقد بدا وقتها أن "النهضة" تخشى من تحالف بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس سعيّد ضد جماعة "الإخوان" التي تمثل أحد فروعها البارزة. لكن سعيّد وفور عودته إلى تونس توجه إلى جامع الزيتونة، بكل ما يحمله من رمزية دينية وقبل يوم واحد من شهر رمضان، مستغلاً رمزية المكان والزمان ليشن هجوماً حاداً ومباشراً ضد الإسلام السياسي ومتوجهاً للشيوخ في الجامع الكبير بالقول، إن "الله توجه إلى المسلمين والمؤمنين وليس إلى الإسلاميين، والنبي إبراهيم كان مسلماً ولم يكن إسلامياً. نحن مسلمون والحمد لله على نعمة الإسلام ولسنا إسلاميين، هذا الفرق وهذه المناورة الكبرى التي يقصد منها تفريق المجتمع. لم تكن القضية قضية إسلام وغير إسلام".

لكن النقطة التي أفاضت كأس الصراع بين الطرفين هي في الخطاب الذي ألقاه الرئيس سعيّد في العيد الوطني لقوات الأمن الداخلي، والذي هاجم فيه تحصّن النواب المقربين من "النهضة" بالحصانة البرلمانية رغم المتابعات القضائية التي تلاحقهم في المحاكم، وأشار بوضوح إلى صهر راشد الغنوشي وأعلن أن صلاحياته كقائد أعلى للقوات المسلحة تشمل أيضاً قوات الأمن الداخلي وليس الجيش فقط، ليبدأ فصل جديد من الدعاية الإسلاموية، حيث انطلقت الحركة في حملة دعائية واصفة ما يقوم به الرئيس بالتسلط والنزعة الفردية والإنقلابية، في إعادة إنتاج للهوس "الإخواني" بالانقلابات.

لقد شكل تحرك الجيش المصري في عام 2013 ضد حكم جماعة "الإخوان المسلمين" نوعاً من العقد النفسية التي أثرت في السلوك السياسي للحركات الإسلامية، التي دخلت في نوع من البارانويا السياسية والخوف المرضي من أي معارضة أو خصومة سياسية معها، لتصنف أي مخالف لها أنه استئصالي وانقلابي وهذا ما يحدث اليوم في تركيا، حيث وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الآلاف من الناس في السجون بتهم تتعلق بمحاولة إنقلابية لا أحد يعرف حقيقتها وتفاصيلها حتى اليوم. لكن هذا الهوس الإسلاموي بالإنقلابات ليس سببه فقط نكبة الإسلاميين في عام 2013، ولكن أيضاً لأن السلوك الإسلاموي السياسي إنقلابي في جوهره، لذلك يخشى دائماً من الانقلابات لأنه لا يرى في السياسة مجالاً للتداول على العمل العام بين القوى المختلفة وإنما مجالاً للمغالبة من أجل التمكين والذي هو منتهى السياسة التي لا إختلاف فيها ولا تداول، وفقاً للمشروع الإستراتيجي لـ"الإخوان المسلمين".

أما الهوس الثاني في سلوك "حركة النهضة" تجاه خصومها، فيقوم على اعتبار أي خلاف سياسي كمقدمة لحرب أهلية، وهذا يكشف عن لا وعي الحركة الإسلامية القائم على المغالبة والإقصاء، فلا مكان للمخالف إلا خارج دائرة الفعل ولا تعامل معه إلا بالحرب وهي كناية عن العنف بكل مستوياته. وقصة "حركة النهضة" مع الحرب الأهلية ليست جديدة. في كثير من المحطات اعتبرت الحركة صراعها مع الدولة، حرباً أهلية، وفي مواضع أخرى استعمل قادتها تركيب "حرب شعبية". أول الحروب كانت قد انطلقت بداية عام 1987، ولم تنتهِ إلا بوصول زين العابدين بن علي إلى السلطة. حرب الـ 87 كانت الأشرس وفيها العديد من المعارك، معركة المساجد ثم الشوارع وخلالها ابتكرت الحركة أسلوب "التظاهر الليلي" والذي أصبحت أشد المستنكرين له "يا لمكر التاريخ"، ثم معركة التفجيرات والمياه الحارقة. كانت حرب شوارع رهيبة. هكذا يصفها راشد الغنوشي لاحقاً: "وخلال بضعة أشهر من انطلاق الحملة الشاملة والرد عليها من طرف الإسلاميين بالمسيرات تحولت البلاد إلى ما يشبه ساحة حرب أذن فيها لأعوان الأمن بإطلاق الرصاص على المتظاهرين فسقطت عشرات الأرواح وامتلأت السجون بأكثر من عشرة آلاف سجين إسلامي".

وبالأوصاف نفسها يروي صالح كركر، قائد أركان الاتجاه الإسلامي يومذاك، وقائع تلك الفترة: "كل ما حدث في تونس ما بين آذار (مارس) وتشرين الأول (أكتوبر) 1987، كان شيئاً مرعباً. كانت حرباً شعبية. لم يكن أحد في مأمن من ذلك... فعلوا كل شيء: الجيش، الشرطة، ميليشيات الحزب. كان هناك ما يقرب من مئة وخمسين ألف شخص يطاردون أعضاء الحركة، بالأسلحة، بالعصي، بكل الوسائل. وكنا نتجنب المواجهة. وكانوا قد هيأوا المناخ لحرب أهلية".

الحرب الثانية بدأت ربيع عام 1991، وعُرفت وقتئذ بمعركة فرض الحريات - الحريات الدينية فقط لا يذهبن بكم الظن بعيداً - وأعقبته خطة تحرير المبادرة في إطار الفلسفة الجديدة للشيخ راشد الغنوشي المعروفة بالتدافع الاجتماعي. انتهت الحرب بتثبيت نظام بن علي، والخروج النهائي للحركة من المشهد. فقد فقدت "سمكة" الحركة ماءها، وتشتت أنصارها ووسطها الاجتماعي، بين سجين وملاحق. فهذه الحركة طالما لوحت بالحروب ولكنها لم تكسب يوماً حرباً إلا حرب القديم على الجديد.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية