أثار الإعلامي المصري الدكتور خالد منتصر، في أولى حلقات برنامج "يتفكرون" التي بثت مساء أمس على قناة "الغد العربي"، إشكالية تعدّ الأبرز في علاقة المجتمع بالدين، وتتمثّل في الخلط بين الدين والتدين، وبين "السماوي والأرضي"؛ حيث أصبح تفسير الفرد أو المجتمع للدين، بمثابة الدين نفسه. ما أوجد حالة من الخلط، بسبب ما ينسب إلى الدين من عنف، وقتل على الهوية وتطرف، وفي هذا السياق تساءل منتصر: كيف يمكن فض الاشتباك بين الدين والتدين؟
الحافي: لو خيروني بين عقلي وديني، لاخترت عقلي، فلولاه ما عرفت ديني، فالدين حقيقة عظمى
منتصر، طرح تساؤله هذا على كل من أستاذ الأديان المقارنة في جامعة آل البيت بالأردن الدكتور عامر الحافي، وأستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الآداب الأسبق بجامعة القاهرة، الدكتور أحمد زايد؛ حيث أوضح كلّ من الحافي وزايد أنّ "التدين لا يعكس الدين؛ لأن الدين حقيقة عظمى لا يحتكرها إنسان، بينما يأتي التدين في إطار الظروف الاجتماعية والتاريخية التي يعيشها الإنسان".
وفي هذه الحلقة من البرنامج الذي يبث مساء يوم الثلاثاء من كل أسبوع، قال الحافي إنّ "البشر لا يدركون من الدين بصفته حقيقة عظمى، سوى أجزاء بسيطة متنوعة، بحسب ثقافتهم واطلاعهم؛ إذ يتحكم هذا الاطلاع بالقدرة على الفهم، وبحسب هذا الفهم، ينتج التدين"، مشيراً مثلاً إلى وجود تدين سياسي، وآخر ثقافي، وآخر مرتبطٍ بالجغرافيا.
خطاب الدين والتدين
وحول ما إذا كان هنالك فرقٌ بين الدين والتدين، رأى زايد أنّ "الإسلام عبر التاريخ أنتج، على سبيل المثال؛ خطاباً سنياً وسلفياً وصوفياً، ولكل مذهب من هذه المذاهب رجال دين، يحتكرون المذهب ويخلطون بين الدين والمصالح الفردية والسياسية، مما يجعل الخطاب الديني لكل منها قائماً على تفسير النصوص من وجهة نظرٍ بشرية".
وأوضح زايد، أنّ هذا الخطاب الديني يصبح "فاصلاً بين الدين وبين التدين القائم على حاجات ومصالح وتفسيراتٍ بشرية؛ حيث يقدم رجال الدين خطابهم هذا، على أنه الطريق الوحيد لفهم الدين، ومن هنا يأتي الخلط".
زايد: الخطاب الديني يفصل بين الدين والتدين؛ لأن التدين يقوم على حاجاتٍ ومصالح وتفسيراتٍ بشرية
وفي السياق ذاته، أكد الحافي أنّ السؤال المحوري المتمثل بـ"من يحتكر التدين كحقيقة مطلقة، ولماذا تسعى فئة ما، ومنها رجال الدين، لتكون ناطقة باسم الله؟" هو سؤال يجسد المشكلة الشائكة حول التدين الذي يمكن أن ينجح ويعالج مشكلات الأرض والبشر؛ إذ ليس من الممكن، بحسب الحافي، أن "يكون التدين المنغلق خيراً للبشرية، في حال بقي يروّج الدين على أنّه يهبط من السماء إلى الأرض، فيبقى عالقاً فيما هو سماوي، ولا يلتفت إلى الأرض والبشر في تنوعهم وتعدد علومهم ولغاتهم وأعراقهم".
وساق الحافي مثلاً، بالقول إنّ "الرسول محمد عليه السلام، لم يتحدث عن نبوّته إلا بعد أريعين عاماً؛ حيث تحدث بلسان قومه وانطلق من واقعهم".
التدين بين التنوع والاحتكار
وبخصوص وجود رجل دين متخصص بترويج خطاب ديني معين، ويملك الحق في ذلك، مثله مثل أي عالمٍ في أي قطاعٍ من العلوم، كالطبيب مثلاً. أشار زايد إلى أنّ "التدرج في فهم البشر وتنوعهم والأرض وعلومها لا يخول رجال الدين لتعميم خطابهم على المجتمع بصفتهم متخصصين فيه؛ حيث إن رجل الدين لا شأن له بدين الفرد؛ لأنّ التدين مسألة روحية تتعلق بخصوصية الفرد وحده، وليست كعلوم الطب والهندسة وغيرها".
وذهب زايد للقول إنّ الجماعات التي تحتكر الخطاب الديني "لا تتمتع بالشفافية التي يمثلها التدرج في أحكام الدين، واستيعاب التنوع بين الأفراد والطوائف وتدينهم، إنما توجد جماعات كداعش والإخوان وغيرهما، تطلب من الناس الطاعة والتبعية فقط".
الحافي: مفهوم الطاعة والتبعية يعود إلى الاعتقاد بأن المقدس لا يقبل النقد، والنقد لا يعني النقض
من ناحيته، أشار الحافي إلى أنّ مفهوم الطاعة والتبعية الذي أشار إليه زايد، يعود إلى "الاعتقاد أنّ المقدس لا يحتمل النقد"، منوهاً إلى أنّ "القرآن الكريم يوجه النقد للصحابة والأنبياء، كما في قصة الأنفال، وسورة الكهف، ويعمل على توجيههم، مما يؤكد أنّ النقد ليس نقضاً للمقدس". ومن هنا، دعا الحافي إلى التركيز على النص المقدس الموحى به من الله، وإعلاء أهميته، بصفته أهم من "مقولات المفسرين"، خصوصاً إذا تم احتكارها وفرضها على أنّها مقدسة.
أما عن استغلال رجال الدين للتديّن، وجعله أداة للتحليل أو التحريم، فساق زايد مثلاً مهماً على تدخل "رجال الدين في التعليم بكل مراحله، وفي الثقافة والفنون"؛ حيث يمنعون دروساً وأعمالاً أدبية وفنية، وينظرون إلى التاريخ نظرة مغلقة، لا تلتفت إلى الحاضر، وهم وإن كانوا لا ينتمون للجماعات الإسلامية، لكن هذه الجماعات تردد ما يقولونه، كما أنّهم يتمددون في المجتمعات الإسلامية منذ عقود، مانعين تطورها".
زايد: توجد جماعات كداعش والإخوان وغيرهما، تطلب من الناس الطاعة والتبعية فقط، ولا تتقبل التعددية والتنوع
واتفق كل من الحافي وزايد، على أنّ النص القرآني، بشقيه؛المكي -المشتمل على أوامر ومسائل تختص بالإيمان والعقيدة والإسلام- والمدني -المشتمل على قضايا الشريعة والأحكام التي لا تهمل واقع حال المسلمين في المدينة- هو نص "مرن، لا يتجاوز الواقع، كما أنه ينقد ويشير ويوضح من خلال تفاعله مع واقع المسلمين".
هذه المرونة التي يتصف بها القرآن، وفق الحافي وزايد، تقتضي قبول الواقع والتعددية والظروف التاريخية، بدلاً من التكفير، ووصف المجتمع بالجاهلية، كما حصل في أدبيات ابن تيمية وسيد قطب وجماعة الإخوان.
إنّ استعادة روحانية الدين وإنسانيته، والخروج من دائرة الانغلاق التي يفرضها أي تدين يروج له خطاب ديني معين، ممكنة، برأي منتصر والحافي وزايد، خصوصاً إذا التفت الإنسان إلى واقعه، وعرف الدين بعقله، أو كما أوجز الدكتور الحافي "لو خيروني بين عقلي وديني، لاخترت عقلي، فلولاه ما عرفت ديني".
رابط الحلقة كاملة: