لا يحمل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إلى القدس معنى الكارثة، إن شاء المرء أن يزِنَ الأمور بمنطق الحسابات السياسية، فالسفارة في ظني انتقلت من أرض فلسطينية محتلة إلى أخرى ما زالت مئاذنها وكنائسها تئنّ.
المعنى الأشدّ بلاغة لقرار ترامب هو تجاهل الكتلة البشرية المرمية من الماء إلى الصحراء، فهذا هو الذي يوجع حقاً، ويلقي بنا كأمة عربية ماجدة ذات رسالة خالدة، كما كان يقول القوميون والبعثيون، في مهاوى الردى واللاشيء، كأنّ شعوبنا مجرد حالة صفرية لا تأثير لها، وهذا ما يستحق أن يحزن عليه الإنسان العربي ويأسى.
ومنذ اتُّخذ القرار الأمريكي بنقل السفارة للقدس قبل نحو اثنين وعشرين عاماً، وحتى يوم أمس الأربعاء، كانت الحسابات المانعة متصلةً بالمخاوف من الكتلة العربية، وردود أفعال المجتمعات العربية، وكذلك المجتمع الفلسطيني. ولا ريب في أنّ مراكز الأبحاث والدراسات والاستشعار الاستخباراتي عن قرب وعن بعد لم تكن متيقنة من عواقب مثل هذا القرار، حتى جاء رجل متهوّر أهوج مقامر وصفه نتنياهو بـ"الشجاع" فرمى بالعواقب في سلة المهملات، بعد أن تأكد، أو ربما تيّقن، أنّ العرب العاربة ليسوا سوى ظاهرة صوتية تغضب وتندّد وتستنكر وتحرق الأعلام والدمى الترامبية، ثم تعود إلى مزاولة حياتها، مضيفة القرار إلى سواه من أحداث مشؤومة، وأيام سوداء في التاريخ الفلسطيني.
فلسطين هي بوصلة الكرامة العربية، فإذا انخدشت ساد زمن السقوط، وصار الانحطاط شطارة وإستراتيجية
ولا ينطوي التوصيف السابق على أي تهوين من شأن القرار أو القضية أو البشر، فالأخيرون من المحيط إلى الخليج ضحايا سياسات جائرة كبّلت إراداتهم، كما أنهم ضحايا ثقافة انهزامية اختارت الإذعان، وألغت أفعال المقاومة من معجمها، كما أنّ تلك الشعوب ضحايا رهاناتها الخاسرة على حلم بحياة رغيدة، مهما كانت الخسائر. يكسب العربي رفاهاً زائفاً ويخسر كرامته. يكسب خبزاً يسد به جوعه ورمق أطفاله، فيخسر السكينة، يكسب عملاً مضنياً فيخسر الأمان. ولّعله يظن أنه بذلك يكسب الحياة، لكنه يربح موتاً سريعاً نزقاً، أو بطيئاً مهاناً، لأنه اختار أن يكون رقماً فلم يترك شيئاً إلا أملاكاً وأطياناً، لمن قدّر له ذلك، وتلك ما قد يبدّدها الورثة الأشقياء في رمشة عين. فما الذي أبقاه العربي لنفسه، كي يجعل ترامب يحسب له ألف حساب؟!
إنّه الظلم، سمة العصور منذ فجر القوة والهيمنة. إذا لم تكن ذئباً نهشتك الذئاب. هذه ربما أكثر عبارة دارت في رأس ترامب وأعوانه، وهم يزيّنون له قراره الغاشم: وقّع أيها الرئيس، ولا تكثرث، فلقد عوّدنا الأعارب على ردة فعلهم، وإن هي إلا أيام قلائل حتى نجتمع ونحتسي الشمبانيا برفقة بنيامين نتنياهو وبعض الضيوف "غير المعلنين"!
إنه البؤس، إذاً، أن تقول أيها الحاكم العربي ما تخفيه أياديك العابثة تحت الطاولة، وضميرك المعتلّ فوقها. إنه الضلال البهيم الذي غرقت فيه الأنظمة، فأغرقت شعوبها، وباعت لهم الوهم منذ أول دم نزف من برتقالة سليبة في أرض القداسات، وموطن الأنبياء. فما كانوا يدركون أن فلسطين هي بوصلة الكرامة العربية، فإذا انخدشت ساد زمن السقوط، وصار الانحطاط شطارة وفهلوة وإستراتيجية.
الظلم مرتعه وخيم، فلا ينتشينّ سيد البيت الأبيض كثيراً بالنصر، ولا يغرنّه الإذعان الرسمي العربي، فالبراكين تغلي
إنه زمن "ملوك الطوائف". وكأني بالوزير أبي الحزم بن جهور يعلن، كما فعل قبل نحو ألف عام، سقوط الدولة الأموية في الأندلس. وكأنّي بكل أمير من أمراء الأندلس يمضي إلى بناء دويلة منفصلة، وتأسيس أسرة حاكمة من أهله وذويه، حتى بلغ عددها 22 دويلة، فتناحروا وتقاتلوا حتى أضحوا في مثل هشاشة الغبار. وبعد أن كانوا سادة يحكمون العالم، أصبحوا يدفعون الجزية للملك ألفونسو السادس، وكانوا يستعينون به على إخوانهم.
إنه التاريخ، كما قال ماركس، يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة. والمهزلة منشأها اليوم أننا كشعوب عربية نمتلك كل عناصر التغيير والثورة، لكنّ قلوبنا منطفئة، ونيران أرواحنا خامدة هامدة مستكينة، ومن يهن يسهل الهوان عليه.
بيْد أنّ أمراً يغفل عنه ترامب وحاشيته ومجتمعات القوة من حوله التي تخاطب مجتمعات الخنوع، وهو أنّ الظلم مرتعه وخيم، فلا ينتشينّ سيد البيت الأبيض كثيراً بالنصر، ولا يغرنّه الإذعان الرسمي العربي، فالطبقات السفلى من الوعي الجمعي تتحرك وتغلي بوتائر غير منطقية، كالبراكين تماماً، فلا تعلم بمواقيتها، ولا بلحظة غضبها الساطع، فالدورق يمتلئ قطرةً قطرة!