
أيمن خالد
سوف تسكت الأصوات المطالبة بحل الكنيست وتستمر المعادلة السياسية ستة أشهر قادمة حتى يصبح إعادة طرح مشروع حل الكنيست ممكناً من جديد وفقاً للقانون الإسرائيلي، ما يعني أن الحكومة المتطرفة باقية، وبرنامج الحرب بشقيه في غزة والضفة مستمر حتى نهاية العام، والأهم من ذلك مسألة استمرار تخادم المصالح بين حماس ونتنياهو باقية بانتظار معجزة تغلق باب أرذل الحروب، التي لا شبيه لها سواء في المصالح والضحايا والأهداف وغيره.
هي أرذل الحروب التي تجري على أرض غزة، لأنها لم تخفِ أنانية الطرفين المتصارعين أمام الملأ ولم تتوار فيها المصالح كما يحدث في كثير من الخصومات البشرية، ثم تبرز الإشكالية الأكبر من النزوح إلى النزوح في داخل كيانية صغيرة محاصرة من كل صوب. فيها بحر ليس لها وسماء تخشى الطيور من العبور فيها، يولد فيها الناس في كتلة من شقاء، يفرحون يتكاثرون كأي كائن مخلوق، لكن غزة وحدها كلما كبر فيها الإنسان تضاءلت أحلامه، وكلما مشى على قدميه انحسرت المساحة الممكنة للسير، لأن الكثافة البشرية بالقياس مع الجغرافيا هي الأعلى في الكون، واحتياجات الناس هي الأشد، وأوجاعهم تبقى الأكثر بانتظار مفاتيح الرحمة والتي كانت غزة تنتظرها بعد رحيل الاحتلال عنها، غير أن الذين ابتكروا قداسة ما يتوهمون به من مشروعهم، قاموا وانقضوا عليها قبل أن تستكمل مغادرتها أحذية جنود الاحتلال.
مأساة غزة اليوم هي مأساتها بالأمس، وهو الثمن الذي دفعته غزة مقابل أن ينجح مشروع الإخوان على ترابها مرة بالحديد والنار، ومرة بالخرافة والتضليل بمسميات دينية ومحاولة زج حماس في صميم الرواية التاريخية، فهي موجودة تارة بمسمى (المرابطون) منذ 1400 سنة، وهم موجودون تحت مسمى كتائب حسن البنا في عام 1948، وهم أيضاً موجودون شركاء الثورة الفلسطينية لحظة انطلاقها عام 1965 فيما أسموه لاحقاً بــ"قواعد الشيوخ"، والإشكالية أن هذه الكتب جاءت إصداراتها متأخرة، لكن الأصل فيها أنها ربطت الإخوان بفلسطين منذ القرن الإسلامي الأول، وحتى آخر رواية عجيبة بثتها قناة الأقصى التابعة لحركة حماس في فيديو موثق في السادس من فبراير 2008 ادعت ولادة رضيع في غزة وأنه كلم الناس في المهد، وأخبرهم أنه أي ذلك الطفل سيشهد عصر المسيح الدجال.
هناك دخل الإخوان في الرواية الدينية والسياسية وأسرّوا أمرهم أن تكون غزة ناموس العقل الجهادي سيراً على خطى مرشدهم الأول، لكنها كانت "السلطة" التي هي متعة الإخوان، وفق ما نص عليه دستورهم في رسالة "حسن البنا" إلى المؤتمر الخامس، عندما جعل الحكومة "السلطة" ركناً من أركان الإسلام في جرأة لم يقدم عليها أحد قبله، فأصبحت شهوة السلطة جزءًا من عقيدتهم، يقاتلون من أجلها كما يتقاتل عليها الفاسدون من الأمم.
دفعت غزة ثمن المشروع العسكري لحركة الإخوان، أو القاعدة الارتكازية الأولى على الأراضي الفلسطينية والتي أرادوا من خلالها تبرير مشروعية منهجهم، ثم هي اليوم تدفع ثمن إنقاذ المشروع السياسي لحركة الإخوان والذين جل همهم الحفاظ على وجود الجناح السياسي لحركة حماس، عملاً بمنهج التقية، فإذا عجزت عن الوصول إلى هدف فليس أن تتركه بل خذ منه ما استطعت، وبذلك تقف المفاوضات حول الهدنة في غزة عاجزة عن الاكتمال، فإذا سارت المفاوضات فهي تسير إلى جزئية صغيرة، وإذا توقفت عادت غزة إلى دائرة الموت نوبة ثانية، وما دام بقاء الجناح السياسي مهماً بهذا القدر، فهو على الأقل يمنع قيام دولة فلسطينية، لأن الدولة الفلسطينية ستكون إضافة إلى فكرة الدولة الوطنية، وإذا كان مشروع الإخوان هدم الدولة الوطنية لأجل إقامة الخلافة، فإن الهدم ممكن في إسقاط السلطة الفلسطينية باعتبارها تسعى إلى دولة وطنية، وهذا في منهج الإخوان السير في الطريق الحرام.
المأساة أن غزة تدفع ثمن الحلم التالي للإخوان بقيام كيانية سياسية تتعهد بها أميركا من خلال وجود مكانة في غزة في اليوم التالي للحرب حتى ولو كان يحكمها موظف بلدية في خيمة، وأن يتم رفع حماس من قائمة المنظمات الإرهابية، ومصافحة قادتها، وهي المصافحة التي طلبتها حماس من ويتكوف على أن تكون علنية، مضافا إليها توقيع ترامب على إنهاء الحرب.
لقد شاهد قادة حماس المصافحة الشهيرة بين الرئيس الأميركي والرئيس السوري أحمد الشرع، وهم يحلمون أن يحصلوا على ما يشبه ذلك، لكنهم يدفعون دماء غزة بانتظار هذا الوهم.
هي أرذل الحروب.
العربية