
مختار الدبابي
تدعو قلة من الإسلاميين التونسيين على مواقع التواصل لدعم خصوم المرشح الأكثر حظا قيس سعيد بما في ذلك زهير المغزاوي أمين عام حركة الشعب، القومية الناصرية، متحدية ثقل التاريخ الدامي بين القوميين والإخوان في فترة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر، ومع الأنظمة القومية الأخرى في سوريا أو ليبيا.
ما يهم أنصار حركة النهضة، والمجموعات المنشقة عنها، هو قطع الطريق على فوز قيس سعيد بالانتخابات من الدور الأول. وبعد ذلك سيكون الهدف هو التصويت لخصمه العياشي زمال، وهو ليبرالي ينحدر من حزبي “نداء تونس” و”تحيا تونس” اللذين سبق أن تحالف معهما الإسلاميون، أو زهير المغزاوي الذي لا يخفي في تصريحاته ومواقف حركته اختلافه الجذري مع حركة النهضة.
لا شك أن الخطوة الأولى سيكون عنوانها التحشيد لزمال، لكن في حال لم يمر إلى الانتخابات في ظل اتهامات له ولفريق حملته بتزوير التزكيات، فإن أنصار حركة النهضة سيجدون أمامهم معادلة صعبة إما المقاطعة وترك قيس سعيد يفوز بسهولة على ممثل حركة الشعب، التي لا تمتلك شعبية كافية، أو دعم القومي الناصري الخصم التاريخي للإسلاميين.
ما قد يدفع الإسلاميين إلى الخيار المر، أي دعم الخصم التاريخي، أنهم خبروا قيس سعيد واكتشفوا أن من الصعب إيجاد أرضية تقارب معه خاصة أنهم انتخبوه بقوة في 2019، وكانوا يراهنون على أنهم سيكونون “أصحاب فضل” عليه، لكن رهانهم سقط في الماء، فكيف إذا فاز وهم خصومه.
من المهم الإشارة إلى أن الإسلاميين لديهم قابلية للبراغماتية وتغيير الموقف من الخصوم، حصل هذا خاصة خلال حكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي وبعد ثورة 2011 حين مدوا أيديهم في كل اتجاه في الداخل والخارج. كما أن التقارب مع القوميين لن يكون هو الأول، فقد سبق تقارب فكري وسياسي بينهم خلال تجربة المؤتمر القومي الإسلامي في بيروت بمشاركة أعلام من القطبين.
وفي الداخل لم يمنع العداء التاريخي من “تحالف” ولو بشكل ظرفي من ذلك مشاركة سالم الأبيض، أحد رموز حركة الشعب، بحقيبة التربية في حكومة الإسلاميين الثانية (حكومة الترويكا)، ويقال إنه شارك نصرة لرئيسها الجنوبي علي العريض. وقادت مشاركته إلى انشقاق التيار القومي إلى حزبين من خلال خروج مجموعة الحاج محمد البراهمي وتشكيل “التيار الشعبي” قبل أن يتم اغتياله في يوليو 2013. وحصلت تحالفات بينهم في النقابات، وخاصة نقابة التعليم الثانوي في الانتخابات قبل الأخيرة.
هذه مؤشرات على أن التقارب ممكن في المطلق، وفي الوضع الحالي، فالأمر ممكن وربما مؤكد لحاجة كليهما له.
صحيح أن الإسلاميين هم الأكثر حاجة لمثل هذا التقارب لإظهار قوتهم لقيس سعيد، لكن القوميين هم أيضا لن يمانعوا في تقارب مفيد لهم خاصة حين يكون تعاونا مبطنا مثل التصويت العقابي، الذي يرفع شعار إسقاط قيس سعيد، فهو لن يكلفهم إحراجا مع قواعدهم التي ماتزال تنظر إلى الإسلاميين كخصم أول.
ويفيد هذا التقارب القوميين أيضا في منحهم فرصة لإظهار عدم رضاهم تجاه قيس سعيد، وقد ناصروه بقوة منذ “حكومة الرئيس” وأحزاب “حزام الرئيس”، وكان دعمهم تاما لمسار 25 يوليو 2021 لكن من دون أن يحصلوا على مقابل صغير أم كبير، أقله الاعتراف بدورهم وتمكينهم من مناصب لو محدودة كما حصلوا عليها في حكومة إلياس الفخفاخ وبعده هشام المشيشي وحتى في حكومات النهضة.
والعتب على قيس سعيد يبرر حاجة القوميين إلى الانفتاح مثلما جاء في نص مفتوح كتبه سالم الأبيض إلى المغزاوي في جريدة الشارع المغاربي يحثه على “الخروج نهائيا من تحت عباءة سلطة 25 جويلية (يوليو)، فلم تعد له مكانة بين جنباتها، فهي ملك خاص من أملاك الرئيس سعيّد لا شريك له فيه من أحد”.
كما حث الأبيض مرشح حركة الشعب على الاعتراف “بأن 25 جويلية (يوليو) في حقيقته يمثّل إجهاضا لحراك شعبي وديناميكية النخب الوطنية الفكرية والسياسية والمدنية، الهدف منهما تجديد الثورة التونسية (…) دون العودة إلى الزمن الاستبدادي”.
وظهر في النص توجيه لتوسيع آفاق تحالفات حركة الشعب دون خشية أو تردد بقول الأبيض “على المغزاوي أن يدرّب نفسه على التخلّص من أسر الأيديولوجيا والفئوية الحزبية لصالح الانتماء الوطني الرحب الواسع القوى والانتماءات، دون ارتداد أو تأثّر بوصم الأخونة والدسترة”.
وأبدى المغزاوي في كلمته الأخيرة انزعاجا من اتهامه بأن “ديكور” يمهد لفوز قيس سعيد، مشددا “لن نكون انتهازيين ولا شهود زور”. والمعنى أن ترشيح حركة الشعب لأمينها العام ليسا عبثيا ولا ردة فعل.
صحيح أن في كلامه عتبا على قيس سعيد، لكنْ هناك أهداف أخرى منها أنه يوفر للحركة فرصة لاختبار شعبيتها والاقتراب من الناس وتقديم أفكارها وقيادتها في وضع مريح. وبتراكم المشاركات وحديث الناس ستصبح الحركة جزءا ثابتا في المشهد مثلما حصل مع حركة النهضة في أوقات سابقة.
لكن هناك مزية أخرى لهذه المشاركة فهي ستفرض على الحركة أن تتغير، وأن تخرج من ثقافة الحزب السري الذي يكتفي بلوم الآخرين وإصدار البيانات، خاصة حين يكون في موقع وثير في ظلال الرئيس.
الخروج هدفه تأمين النفس من سطوة الرئيس، ومن سهام الانتقاد بالتواطؤ، فالحركة التي دأبت على انتقاد الآخرين، وهي مرتاحة الضمير، صارت قبلة للتشكيك، وتسلل ذلك إلى داخلها في ظل انتقادات لحركة الشعب، على سبيل المثال بأنها تخلت عن هويتها لاسترضاء قيس سعيد، وأنصارها الذين تعودوا المزايدة على الكل لا يريدون من يزايد عليهم ويتهمهم بالولاء للسلطة والتخفي تحت جلبابها.
لا شك أن الخروج من هذا المنطقة المريحة سيدفع القوميين إلى تطوير خطابهم، ولو ببراغماتية، فلن ينظروا إلى الديمقراطية التي استفادوا منها فقط كسلم لدخول البرلمان أو المنافسة على الرئاسة. سيتغير الخطاب ليس فقط في العلاقة بالديمقراطية بل بالكثير من القضايا والأفكار. هذه سنة السياسة، حيث تتصرف الحركات الأيديولوجية حين تصبح في الحكم أو في طريقها إليه بأسلوب مغاير.. يحكمها ميكانيزم واحد هو المصلحة.
ما يهم هذه الحركات هو البقاء في السلطة وإثبات أنها جديرة بها، ومن هنا ينفتح باب التكتيك والبراغماتية. وما جرى على النهضة سيجري، بلا شك، على حركة الشعب، لو وجدت نفسها أمام محنة/امتحان السلطة. وسنكتشف أن في حركة الشعب براغماتيين ومناورين، وأوجها مختلفة، فريقا متشددا، وآخر لينا.
سيعني التكتيك انفتاحا في كل اتجاه، والتنازلات تبدأ بالغرام الواحد لتصبح غرامات وربما “أرطالا”، خاصة في التعامل مع الدولة العميقة.
سيتغير الخطاب المطمئن بشأن استقلال القرار الوطني الذي نسمعه الآن بالتدريج ليصبح خطابا عن المصلحة العليا للوطن، تغيير هلامي نعم، لكنه يمهد للتعامل مع الخارج بما يحقق المصلحة، بما في ذلك صندوق النقد، و”مخالب الإمبريالية” الأخرى.
إن الصراع السياسي الجدي على السلطة يقود إلى التغيير الواسع، لكن هل يقدر على إحداث تغيير في الموقف من التاريخ وتداعياته، هل سينجح في إذابة الجليد بين فرعين من فروع الإسلاميين (متحدرون من الإخوان) والقوميين في ساحة عربية عرفت بالعداء الأيديولوجي وغياب الحوار؟
سيبدو الأمر صعبا خاصة أنه إن حدث فسيكون مبنيا على انتهازية جلية قوامها “شيلني أشيلك”، كما أنه لا يتأسس على أدبيات سابقة أو لقاءات بين رموز “معتدلة” من الطرفين. إذا حصل تقارب فستفرضه الظروف، وقد يختفي بانتفائها.
اعرب