هل يمكن أن تقود "السلفية الجهادية" سوريا إلى الديموقراطية؟

هل يمكن أن تقود "السلفية الجهادية" سوريا إلى الديموقراطية؟

هل يمكن أن تقود "السلفية الجهادية" سوريا إلى الديموقراطية؟


03/02/2025

حامد الحمود

خلال زيارتي إلى دمشق في الفترة من 11 إلى 16 يناير، ولقائي بعدد من الناشطين السياسيين من طوائف ومدن سورية عديدة، كان الحديث يدور دائمًا حول أن سوريا - ومنذ سقوط نظام الأسد - كانت تعيش فراغًا دستوريًا. فبالرغم من تعيين أحمد الشرع قائدًا للقوات المحررة، لكن ذلك لا يسد الفراغ الدستوري. والاستمرار بشرعية دستور 2012 ينتج عنه أن يعين فيصل المقداد، نائب الرئيس بشار، رئيساً للجمهورية!

خلال لقاءات مع أكثر من ناشط سياسي في السويداء والسيدة زينب ودمشق، ومن طوائف وتوجهات سياسية مختلفة، اتضح أن فكرة عقد مؤتمر وطني يضم أكثر من ألف مشارك من الداخل والخارج هي فكرة غير عملية، فهذا عدد كبير جدًا للحوار حول مستقبل سوريا. فمثلا – وكما ذكر د. رضوان السيد في تغريدة – فإن أعضاء المؤتمر الوطني السوري، الذي عقد في حزيران 1911 - أي بعد الاستقلال الأول لسوريا - كانوا تسعين عضوًا، وقد ضم ممثلين من سوريا ولبنان. ولتجنّب الضياع الدستوري، كان لا بد أن تحل بالشرعية الثورية، فأجمعت الفصائل العسكرية، التي حررت البلاد، على تعيين أحمد الشرع رئيسًا للجمهورية، على أن يتم تشكيل حكومة جديدة موسعة، والأهم من ذلك أن يُشكّل مجلس تشريعي استشاري، يتكوّن أعضاؤه من مكونات الشعب السوري المختلفة. وأخبرني صديق بأنه تم استعجال تعيين الشرع رئيسًا للجمهورية، ليكون بهذا المنصب عند استقباله أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي زار دمشق في يوم الخميس، الموافق 30 يناير.

ومن خلال تجوالي ولقاءاتي في دمشق والسويداء والسيدة زينب مع طوائف وتوجهات سياسية مختلفة، وجدت أن التفاؤل يطغى على التشاؤم، لكنه لا ينفي المعاناة التي يعيشها أغلب أفراد الشعب السوري. ورغم ذلك، لاحظت حيوية وحماسًا في الإقبال على الدراسة لدى الطلبة في جامعة دمشق، وذلك حين تجولت برفقة الدكتور ياسر الجابي - أستاذ العمارة في الجامعة - ولعل أكثر ما أثار إعجابي مبنى رئاسة الجامعة، الذي بدا وكأنه مبنى في جامعة أسبانية أو ألمانية أو بريطانية. وفي طريقنا إلى مكتب رئيس الجامعة، كانت هناك لوحة من الرخام تقر بفضل الدكتور رضا سعيد، الذي كان رئيس الجامعة خلال الفترة من 1923 إلى 1936 في تأسيسها. ولاحظت كم بذلت من جهود مادية وفنية في الحفاظ على روح التصميم المعماري، الذي قام به المهندس فرناندو دي أراندا، الذي وُلد في مدريد عام 1878، ثم أقام في دمشق، وتزوج من شامية بعد أن دخل الإسلام، وصمّم أكثر من مبنى، من بينها مبنى رئاسة الجامعة، ومبنى محطة الحجاز للقطارات. وأذهلتني أناقة وترتيب وبساطة مكتب رئيس الجامعة الدكتور محمد أسامة الجبان وتواضعه، وهو الذي يشغل هذا المنصب منذ أربع سنوات. ولسمعته الطيبة وقدراته الإدارية، جعلت النظام الجديد يقرّر استمراره في رئاسة الجامعة. وبعد أن شربنا القهوة، استأذنت الرئيس بأن أصور بعض اللوحات الفنية المميزة التي زينت مكتبه. وعند توجهنا إلى إحدى اللوحات التي أعجبتني كثيراً، قال لي الرئيس معلقًا: «عندما تتفاقم عليّ ضغوطات العمل، أترك مكتبي وأتوجه إلى هذه اللوحة متمعنًا بها لدقائق، ثم أرجع إلى مكتبي».

وعندما تركنا مكتب الرئيس، وأصبحت اللوحة الرخامية المذكِّرة بعطاءات رضا سعيد خلفنا، سألت الدكتور ياسر: «كيف تمكنتم من إعادة إعمار هذا المبنى التاريخي الجميل؟»، فأخبرني بأنه في عام 2006 تبرّع رفيق رضا سعيد، ابن مؤسس الجامعة ـ والذي يقيم في لندن - بمبلغ 26 مليون دولار، وهذا غير اللوحات الفنية القيمة التي زينت المكان. وبعد أن خرجنا من المبنى، انعطفنا يساراً، حيث أشار إلى مبنى بشع التصميم، أخبرني بأن هذا المبنى كان أشبه ما يكون بمقر حزب البعث في الجامعة. وكان يكرر لي كيف قام بعض القائمين على الجامعة بتشويه الحرم الجامعي معماريًا! وكم حاول هو ورفاقه في كلية العمارة وطلبة الدراسات العليا، وعملوا جاهدين للحد من التشوهات المعمارية، وحاولوا تقليلها أو منعها ما أمكن. وبعد أن توجهنا إلى وسط الحرم الجامعي، كانت على يسارنا حديقة جميلة، وأخبرني بأنها كانت من جهوده وطلاب الجامعة، حيث جاهدوا لكي تبقى هذه الحديقة كما هي بستانًا جميلًا بدلاً من تحويلها إلى مبنى كونكريتي. لكن ما كان يشغل بالي طوال تواجدي في الشام أو دمشق، هو ما طرحته عنواناً لهذا المقال: «هل يمكن أن تقود السلفية الجهادية إلى بناء مجتمع ديموقراطي، تتشارك مكوناته الدينية والطائفية والإثنية في الارتقاء إلى درجات أعلى من الإنتاجية والوعي، وربما القفز إلى أعلى من الحفرة التي سقطت فيها سوريا خلال السنوات الستين الماضية؟»، وهذا يتطلب مني أن أسترسل قليلاً في الظروف التي أدت إلى نشأة التنظيمات السلفية الجهادية.

عندما تم البحث عن تاريخ نشأتها، تبيّن لي أنها نشأت نتيجة لأحداث دولية وتنافس بين القطبين الدوليين: الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. فالشباب العرب، الذين وُلِدوا في أوائل الستينات، شُجِّعوا من قبل الولايات المتحدة ودول خليجية على السفر للجهاد في أفغانستان، هؤلاء لم يتركوا مدنهم وأهاليهم بحثاً عن أغراض مادية أو لتحقيق مآرب دنيوية، بل كانوا مشحونين بعاطفة دينية، وأغلبهم ضحوا بحياتهم من أجل فكرة دينية مثالية. لكن بالطبع هذه الفكرة الدينية المثالية ليست مثالية بالنسبة لنا. وهم خلال ممارستهم لمثاليتهم، ارتكبوا جرائم! وكانوا بشكل عام يدافعون عن المسلمين في أفغانستان ضد الشيوعية الكافرة. فقد استُخدِموا من قبل الولايات المتحدة لضعضعة أسس نظام ماركسي ارتقى بالتعليم في أفغانستان، وارتقى بدور المرأة في المجتمع الأفغاني. وقد أخبرني باحث في معهد «بروكينغز» Brookings Institute، الذي التقيته في الكويت بعد تحريرها، ثم التقيته في المعهد نفسه في واشنطن دي سي سي، بأن الولايات المتحدة ارتكبت خطأ استراتيجيًا بمحاربتها نظامًا ماركسيًا في كابل، ثم سعت إلى إحلال نظام إسلامي بديلًا عنه. فالماركسية هي وليدة الفكر الغربي، ويسهل التفاهم مع من يتبنّى هذا الفكر على المدى الطويل، لكن الفجوة بين الفكر الغربي والسلفية الجهادية الإسلامية يصعب ردمها. وكان من نتائج هذه الفجوة أن نشأ تنظيم القاعدة بقيادة أسامة بن لادن، وكان من نتائج سقوط النظام الماركسي في كابل أن تضخم العقل الجمعي لقيادات السلفية الجهادية الإسلامية، ظانين أنهم سيعيدون عصر الفتوحات الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجري. هذا واستوعب الجهاد الأفغاني كذلك الشباب العرب، الذين وُلِدوا في السبعينات، كونه استمر أكثر من عقدين من الزمان.

أما الذين وُلِدوا في أوائل الثمانينات، مثل الرئيس السوري أحمد الشرع، فقد شكّل الغزو الأمريكي للعراق صدمة لهم، لذا، هبوا من جميع الأقطار العربية لقتال الجيش الأمريكي في العراق. وتثبت الإحصاءات أن أكثر الذين التحقوا بتنظيم القاعدة و«داعش» في العراق وسوريا جاؤوا من تونس أولًا، ثم من دول عربية أخرى. ولم أطلع على دراسة موضوعية تشرح لنا: لماذا تفوقت تونس على باقي الدول العربية في إرسال مقاتلين إلى سوريا والعراق؟

وهناك فرق كبير في ظروف نشأة تنظيم القاعدة وتنظيم داعش. الأول كان امتدادًا لما أسسه أسامة بن لادن وأيمن الظواهري في أفغانستان، لكن «داعش» تنظيم أنشأه ضباط مخابرات عراقيون، كانوا قد زجوا في سجن معسكر بوكا Camp Bucca الأمريكي في البصرة بعد سقوط نظام صدام حسين، حيث اتفقوا على تعيين أبو بكر البغدادي ناطقًا باسم التنظيم. هذا ووفقًا لتقرير مفصل وطويل، نشرته «دير شبيغل» الألمانية، بتاريخ 21 ــ 4 ــ 2015، الذي ذكر أن مؤسس «داعش» هو سمير عبد محمد عيسى الخليفاوي، المعروف باسمه المستعار «حجي بكر»، وكان عقيدًا في مخابرات صدام. وعندما كان أيمن الظواهري يضغط كي يتوقف «داعش» عن حملاته الوحشية ضد المواطنين العراقيين من الشيعة، كان يتواصل مع حجي بكر، وليس مع أبو بكر البغدادي، لأن القرار لم يكن بيد الأخير. ويذكر التقرير أن جبهة النصرة، التي انشقت عن «داعش» و«القاعدة»، كانت تعمل بشكل مستقل. ويذكر تقرير «شبيغل» الألمانية أنه عندما سقطت الرقة بأيدي الثوار في أبريل 2013، تسلل إليها تنظيم داعش، وبدأ بتعذيب وقتل المدنيين من أهلها. وتحالف المدنيون والثوار من أهل الرقة مع جبهة النصرة، وتمكنوا من طرد داعش من الرقة، والذي يشير إلى علاقة قديمة وتحالف مشترك بين جبهة النصرة وثوار المجتمع المدني المكونين من طلاب جامعات وأطباء ومعلمين ومهندسين ومحامين.

ولو رجعنا إلى بداية الخمسينات، لوجدنا أن العديد من الشباب العرب، الذين وُلِدوا في تلك الفترة، انتموا إلى التنظيمات الفلسطينية، وشاركوا مع تنظيمات فتح والجبهة الشعبية والديموقراطية بعد هزيمة 1967. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية كانت نسبة كبيرة من مقاتلي فتح والجبهة الشعبية والديموقراطية من السوريين والعراقيين.

ما قصدته من هذا الشرح، هو أن ميول الشباب المثالية في أول العشرينات من العمر تأخذهم نحو تبني أفكار أيديولوجية تسيطر على دماغ الفرد الشاب، بحيث إنه يتوقف عن سماع أو إدراك ما لا ينسجم مع أيديولوجيته أو إيمانه، لكن هذا لا يعني أن للفكر أحكامه وللبيئة محدداتها. فكثير من مقاتلي التنظيمات الإسلامية المتطرفة - خاصة من الباكستانيين – تمكنوا من نشر تجاربهم المأساوية، التي نجوا منها بأعجوبة، فقد نجوا من القتل، ومن سيطرتها على عقولهم، بعد أن التحقوا بمعاهد وجامعات في بلادهم وفي الغرب، مما ساعدهم ذلك على الابتعاد عن الفكر المتشدد.

أما أحمد الشرع – صاحب الجذور المدنية - فهو من هؤلاء الذين أدركوا أن الثورة والتطرّف لا يمكنهما بناء دولة. وربما تكون التحولات التي طرأت على قيادات جبهة النصرة أو هيئة تحرير الشام هي بداية لنهاية التطرف الإسلامي، الذي عصف بمجتمعاتنا منذ منتصف السبعينات. فثوار إدلب الذين صمدوا وقادوا تحرير سوريا من وحشية نظام الأسد، يعرفون أكثر أنهم غير قادرين على تغيير قيم أهل الشام المتفتحة والمتنوعة، وأنه من الأجدى لهم أن يغيّروا هم قيمهم وسلوكياتهم، وسيكونون قادرين على قيادة مجتمع ديموقراطي يؤمن بالتعددية. ومما يستشف من خطاب أحمد الشرع الأول، أو من خلال تعيينه لديالا بركات - المسيحية والمنتمية للحزب القومي السوري الأكثر علمانية بين الأحزاب العربية - يمكن القول إن السلفية الجهادية المتحوّرة ستساهم في نقل سوريا إلى التعددية الديموقراطية. 

القبس




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية