هل يقف لبنان على أبواب الحرب؟

هل يقف لبنان على أبواب الحرب؟


20/09/2020

فيديل سبيتي

منذ عام 2005، حين اغتيل رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، ولبنان يتجه بخطى حثيثة نحو عنق الزجاجة، البعض يقول نحو الهاوية، في حين يصعد آخرون أكثر بالقول "نحو نهاية لبنان".

أظهر العامان الماضيان الصورة الأمثل للدرك الذي وصلت إليه العقد السياسية اللبنانية القائمة على ما يسمى "الديمقراطية التوافقية"، وبانت جذور الفساد في مؤسسات الدولة كما تنبت الأعشاب بعد ذوبان الثلج، وظهرت التشابكات القائمة على المحاصصة وتوزيع المغانم بين أعضاء الطبقة الحاكمة، التي يصفها اللبنانيون بـ"المافيا"، بينما يصفها دبلوماسيو دول عربية وغربية منزعجة مما آلت إليه الأحوال بـ"العصابة"، كما فعل وزير الخارجية الفرنسي.

وبالطبع هذا ليس تجنياً منهم، إذ إن اللبنانيين الواقعين في الحفرة الكبيرة التي حفرها هؤلاء الساسة يصفون زعماءهم بأشنع من هذه الأوصاف، سواء كانوا متحزبين لفريق سياسي أو لا. فالقرف عام ولا يستثني أحداً، لكن الفئات المستفيدة من الفساد لا تجرؤ على الجهر بما تعانيه.

طبقة حاكمة متشابكة

دفع الفساد اللبنانيين إلى الشارع منذ 17 أكتوبر (تشرين الأول)  2019، في حركة رافضة لبقاء الطبقة الحاكمة هذه، البعض أطلق عليها اسم "ثورة" وآخرون "حراكاً" وفئة "انتفاضة"، أما الطبقة الحاكمة وعلى رأسها حزب الله فوصمت الحراك بأنه عمل تخريبي عنيف وممول من السفارات، يهدف إلى نزع سلاح المقاومة وتقويضها.

في لبنان، لا تدوم الثورات ولا تحقق شيئاً، ما دام أنها تحارب طبقة متجذرة في السلطة منذ الحرب الأهلية اللبنانية، وانتفعت من السلطة بتجييرها لصالح الطوائف عموماً، ومن ثم الفئات المقربة من زعماء الطوائف، فبات الأمر وكأنه "فيدرالية" المؤسسات الحكومية، أي أن كل طائفة تمتص ما أمكنها من المال العام بواسطة مؤسسات رسمية مسجله لها (مجلس الجنوب- وزارة المهجرين- مجلس الإنماء والإعمار- وزارة الاتصالات- وزارة الطاقة- ووزارة المالية) لصالح أعضائها، كمخرج سهل لما يسمى الديمقراطية التوافقية التي لطالما كانت، عرجاء بل مشوهة.

وكلما حاول اللبنانيون الخروج من هذه المعادلة لصالح بناء وطن حقيقي تقوم هذه الزعامات السياسية وبما يشبه الاتفاق بينها بتشديد التجييش الطائفي والمذهبي لإعادة "القطيع" المنتفض إلى الحظيرة، وغالباً ما ينجحون في هذا الأمر، فيطفئون كل شمعة تضاء في فضاء عتمتهم.

فوق هذا كله، انطلاقاً من عام 2000 تاريخ انسحاب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، عاد النقاش حول دور لبنان وهويته في المنطقة وعلاقاته بجيرانه ودول العالم والمحور الذي يصطف فيه. فكان وما زال، حزب الله وسلاحه موضوع النقاش العام ومن ثم الانقسام، خصوصاً مع دعوة البطريرك الماروني بطرس الراعي إلى حياد لبنان، أي أنه لا يقف في أي من المحاور التي تتوزع فيها دول المنطقة وسياساتها.

هذه الدعوة التي لقيت تأييداً من قسم من اللبنانيين ورفضاً مطلقاً من قسم آخر. وبالتالي كرست الانقسام اللبناني حول المبادئ الأساسية لقيامه وقيامته، فبدا لبنان في الذكرى المئوية لتأسيسه وكأنه ما زال جنيناً في الرحم لم يولد بعد، أو على العكس وكأنه بات مسناً على فراش الموت. هذا ما استدعى التدخل الفرنسي بشخص رئيس الجمهورية الفرنسية مباشرة.

ما بين 1973 و2020

على الرغم من تهديده بالعقوبات المالية وتحذيره بأن مبادرته هي الأخيرة وإذا لم تستغل فإنها ستؤدي إلى زوال لبنان، ووضع يده بنفسه على الملف اللبناني، فإن "مافيا" الطبقة السياسية لم تسمح للرئيس المكلف بتشكيل الحكومة مصطفى أديب تأليفها، بسبب خلافات هي نفسها جذرية وتطال الميثاقية وتحريفها، من مثل الإصرار على وزارة المالية من قبل "الثنائي الشيعي" (حزب الله وحركة أمل) بحجة أنها تحقق للطائفة الشيعية التوقيع الثالث بعد توقيع رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس الوزراء السني.

الحرب الأهلية التي أرخها اللبنانيون عام 1975، لم تنطلق من شرارة "تلحيم"، كما يشاع بخصوص "انفجار المرفأ" الكبير في بيروت. فهذه الحرب كانت لها مقدمات كثيرة في السنوات السابقة عليها، بدأت منذ توقيع اتفاق القاهرة عام 1969 الذي سمح للفلسطينيين باستخدام الأراضي اللبنانية منطلقاً لعملياتهم العسكرية في مواجهة إسرائيل. حينها انطلق انقسام اللبنانيين حول هذا السلاح وحول دور لبنان في المنطقة كما هي الحال اليوم، ودخل لبنان في عنق الزجاجة مع استقالة حكومة صائب سلام في عهد الرئيس سليمان فرنجية عام 1973، وحين عيّن فرنجية الرئيس أمين الحافظ لتشكيل الحكومة.

كانت الأمور آنذاك تدور على المنوال ذاته، الذي تدور عليه اليوم، ولو بحضرة رجالات دولة حقيقيين عايشوا استقلال لبنان وانطلاقته مع "الميثاق الوطني" الذي اتفق عليه الرئيسان بشارة الخوري ورياض الصلح عام 1943.

لكن وجود هؤلاء الرجال الحريصين على منع انزلاق لبنان إلى الانقسام فالفوضى والحرب، لم يكن كافياً لوقف التدهور، إذ كانت المشكلة القائمة أكبر منهم جميعاً. فكيف ستكون الحال اليوم مع طبقة سياسية تحكم بعد ما كانت لها اليد الطولى في الحرب الأهلية، واليد الطولى في الفساد "السلمي" بعد انتهاء الحرب؟  

فساد و"مقاومة" قبل 5 عقود

افتتح عام 1973 النصف الثاني من عهد الرئيس سليمان فرنجية وحكومة العهد برئاسة صائب سلام. كانت البلاد تعمل على جبهتين، جبهة المعارضة التي تتهم العهد بالفساد تواكبها التحركات المطلبية. والجبهة السياسية التي صدعها الوجود الفلسطيني المسلح والكثيف في المناطق اللبنانية، والعمليات الفدائية الفلسطينية التي تنطلق على طول الحدود اللبنانية مع فلسطين.

في مطلع ذلك العام، زادت وتيرة التحركات المطلبية، بدءاً بالتحركات الطلابية مروراً بمطالب الأساتذة والمعلمين، وصولاً إلى تحركات النقابات العمالية ضد موجة الغلاء الآخذة بالتصاعد، والتي تطلبت خطة عمل من قبل حكومة سلام لمواجهتها، وتدخلاً مباشراً من قبل رئيس الجمهورية لإنشاء فرق مراقبة لنقاط البيع ولأسعار السلع المستوردة.

ورافقت هذه التحركات معارضة نيابية شديدة للحكومة ترأسها كمال جنبلاط ومعه رشيد كرامي، وكان كلاهما يتحدث عن العمل على إسقاط الحكومة في القريب العاجل.

استثمرت الفصائل الفلسطينية تزايد أعداد المقاتلين الموجودين في لبنان الذين جعلوه محجتهم منذ "أيلول الأسود" الأردني. واستثمار الواقع السياسي اللبناني المنقسم حول نظام الحكم وتوزع السلطات وحول سلاح المقاومة نفسه، تجلى باتخاذ تلك الفصائل حرية إضافية في نقل الأسلحة بين المناطق اللبنانية وعبر سوريا، وفي فرض سطوتها على أماكن وجودها في المخيمات ومحيطها وفي المناطق التي تنتشر فيها المراكز الحزبية ومنازل القيادات.

أما مطالب اللبنانيين، فكانت عبارة عن "شعارات" لا رابط فعلي بينها والواقع السياسي، وهي تتسع في مروحة لا حدود لها، فتدور المطالب حول المنازعات على الانتخابات النيابية وطباعة الصحف المختلفة وأنشطة الأحزاب والجماعات العلنية وحرية العمل النقابي وترخيص الجمعيات وبياناتها وحرية التظاهر ومدارس التعليم الأهلية والخاصة، إلى العقود الجماعية والهيئات التحكيمية المستقلة، إلى الاقتراع في أمكنة العمل والإقامة وزيادة الأجور وتعديل المناهج المدرسية وإلغاء العلامة اللاغية وتخفيض رسوم الإيجارات وإثبات علاقة أجنحة "الطبقة الحاكمة" كلها بالطبقة الرأسمالية والغمز من الرأسماليات العربية والتظاهر تضامناً مع جبهة التحرير الوطني الفيتنامية... إلخ، قبل أن تتحول تلك التظاهرات للمطالبة بتغيير النظام السياسي اللبناني.

 لكن الزعماء والسياسيين التقليديين، سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة راحوا يتعاملون مع ما يجري وكأن شيئاً لا يحدث، أو على طريقة النعامة التي تخبئ رأسها بالرمل.

وفي كلتا الحالتين، سواء كان الساسة اللبنانيون يتقصدون التعامي عن المجريات المستجدة أو يتعامون عنها من غير قصد، فإن الدولة اللبنانية آنذاك كانت كبيت مؤلف من طبقتين، طبقة علوية جدرانها كاتمة للصوت يعيش فيها معظم الساسة، وطبقة أرضية يملؤها معظم الشعب اللبناني والمقاومة الفلسطينية ضجيجاً، قبل أن يأخذا زمام المبادرة في ما بعد، فيحولا الطابقين إلى بيت واحد "بمنازل كثيرة" مشرعة على كل شيء.  

أبو عمار (الراحل ياسر عرفات) كان دبلوماسياً في مطالبه المتعلقة بالمقاومة، ويدعو إلى التهدئة حين تطالبه السلطات اللبنانية بضبط العناصر غير المنضبطة من فدائيي الفصائل الفلسطينية، ولا يكف عن زيارة كل القيادات السياسية، تحديداً قيادة الكتائب اللبنانية والعميد ريمون إده، في الوقت الذي يمول التنظيمات اليسارية اللبنانية الصاعدة من رحم العمل الطلابي ونقابات العمال والناقمة على التركيبة الطائفية الطبقية للنظام اللبناني.

وأدى ميل الشارع السني خاصة والإسلامي عامة نحو خطاب دعم المقاومة الفلسطينية المطلق، وشد "العصبيات" اللبنانية إلى جهتين متقابلتين، الأولى، لدى الزعامات السنية التي التحقت بهذا الخطاب قبل أن تفقد سلطتها وزعامتها التقليدية، والثانية، لدى الجيش اللبناني والشارع المسيحي الذي راح يشعر بأنه يفقد بسرعة كبيرة سلطته السياسية أولاً، و"لبنانه" ثانياً.

كان الشد بين الطرفين آخذ بالتصاعد، ولكن من دون أن ينفلت سوى مرة واحدة في مايو (أيار) عام 1973، أي أثناء المعارك التي جرت بين الجيش اللبناني والمسلحين الفلسطينيين، هذه الحوادث التي ستكون بمثابة الديناميت الذي فجر السد، لو افترضنا أن المقاومة كانت البحيرة خلف السد.

أحداث عام 1973 كانت الخميرة التي نفخت عجين الحرب اللبنانية وأشعلت أفرانها. فهل هذا سيكون دور عام 2020؟

عن "اندبندنت عربية"


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية