كلمة السر في كل المُعاناة العربية هي الطُغيان، فالربيع العربي بكل ثماره المرة والحلوة، بكل آماله وطموحاته وانكساراته، بكل ما ناله من تمجيد واتهامات، لم يكن غير إحساس صادق من شباب عربي أراد أن يعبر بأوطانه التاريخ. وما يحدث في سوريا اليوم هو فصل جديد من فصول الربيع العربي، سواء انقلب خريفاً أو سالت بعده الدماء أنهاراً، أو حدث ورأينا نموذجاً عربياً فريداً من الديمقراطية التعددية. هو فصل جديد لشباب عربي لم يعد ينجح معه الترهيب أو القتل. ونحن في عصر السماوات المفتوحة الآن، ونطل على كل بلدان العالم، وتتشوق أرواح شبابه للحرية. والأنظمة العربية تتعامل كما لو أنّها ثابت كوني مُطلق، ثابت حتى لو أزهقت من أجله ملايين الأرواح وتشردت من أجله ملايين أخرى.
غير أنّ المرء بوصفه ثورياً عتيداً، عايش الإرهاصات الثورية الأولى في البلدان العربية، ورأى غرسها وبراعمها وثمارها وآلامها ومشاقها ودموعها ودماءها، لا يستطيع أن يمنع نفسه من الإحساس بالفرح الحزين، والأمل المكتنف بالخوف، والتشوف الذي تطوقه ذكريات صعبة حول كل ما مر به هذا الجيل العربي، ولا يستطيع أن ينسى كيف علت بنا الآمال في أيام الوطن الكُبرى، ثم اختنقت بنا في أظلم لياليه.
من حق الشعب السوري أن يفرح، ومن حقنا نحن الذين نتقدمه خطوات أن نخاف، إنّ جبروت بشار جعل الكثيرين يُهللون لرجل ربيب أنظمة إرهابية، أي الجولاني، وله تسجيل قديم مع أحد مذيعي قناة (الجزيرة) وهو مُتخفي الوجه وبلباس من العصور الوسطى، ويتحدث بلغة اندثرت، ويصف عقائد الآخرين بـ "الفاسدة"، ويتحدث بوصاية دينية على الجميع، ويتحدث عن الغنائم والفتح وبعض المصطلحات التي تجعلنا نرى مُستقبل سوريا صعباً، خاصّة في ظل التكوين العقائدي المتنوع للبلد، وفي ظل مطامع إيرانية وتركية وإسرائيلية.
إنّ (13) عاماً من الثورة والاحتجاج على نظام الأسد، لم تكفهِ ليتعظ ويتخذ إجراءات إصلاحية ودستورية شاملة، ليحتوي غضبة طوائف الشعب في بلد تتهدده الطائفية، بل عمل على تعميق الجراح السورية أكثر، وشرّد الملايين من أبناء الوطن، وقتل مئات الآلاف، واعتقل ألوفاً مؤلفة أخرى، تقشعر أبداننا لأعدادهم الهائلة وهم يخرجون من زنازينهم الآن، فنسأل: ألم يكن ممكناً أن يتصرف الطاغية بشكل وطني أكثر مع احتفاظه بكرسيه؟.
نُراقب التطورات بخوف، والنموذج العراقي أمام عيوننا، لكن هل هو أمام عيون القادة الجُدد؟
هل ينتظر سوريا المصير العراقي، ودوامة دموية من التصفية العقدية؟ وهل بعد انتهاء حماسة القضاء على بشار ستأكل الثورة المسلحة بنيها؟
لسنا متشائمين، ولكن كل من يرى الأحداث بهذه الواقعية هو مرهون بكل الوقائع السابقة، هو مُقيد بالتفسير التاريخي للأحداث، لأنّنا نُدرك بألم ووعي أنّ الشعوب العربية ليست مؤهلة حقيقية للديمقراطية، وأنّ ثمار التفكير الليبرالي وقيم العلمانية والتعددية والتعايش هي أفكار ليست خصبة في البيئات العربية، فالديمقراطية تتأسس بهذه القيم دون غيرها، وعدا ذلك تكون الديمقراطية العربية أكذوبة للتسويق الإعلامي.
إنّ القارئ المتبصر بدورة الثورات العربية، سيرى كيف تبدأ الحرية بأغنية تتجهز في حناجر شباب حر ليبرالي غالباً أو غير مسيس تماماً، يكون اندفاعه تمثيلاً أعلى لنضج مكون عربي صغير العدد حر الفكر وقوي، ثم تُختطف الثورة بأيدي الجماعات المتأسلمة التي يكون خطابها عسلاً حلواً في أذهان العوام، وهم المكون الأكثر عدداً والأكثر هشاشة فكرية، أو تُختطف لمن بيده السلاح، وكأنّ قدر الثورات العربية أن تُنضجها الليبرالية، وتحصدها العمامة أو البيادة.