هل يعاني أردوغان من "شيزوفرينيا شرق المتوسط"؟

هل يعاني أردوغان من "شيزوفرينيا شرق المتوسط"؟


17/08/2020

تتّسم تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بالاضطراب والتغيرات السريعة، على نحو ملتبس، يصيب متابعه بالضبابية، ماذا يقصد بالضبط؟ وهل حديثه الواحد في المناسبة الواحدة استجداء للتفاهم وإبداء للمرونة، أم تهديد ووعيد من يتحكّم بزرّ الحرب، يوشك أن يضغط عليه حالاً ليفجّر الأوضاع غير عابئ بالنتائج؟

 

تأزّم الموقف التركي مع إعلان فرنسا تعزيز تواجدها العسكري في المتوسط لمراقبة التوترات

ويُعدّ أردوغان من الرؤساء الدائمي التصريح والاشتباك الكلامي، لذا فإنّ محاولة استشراف مواقفه تفترض أن تكون يسيرة، مقارنة بآخرين قليلي التصريح، غير أنّ كثرة جعجعته، مع التباين الواضح فيما تحمله من رسائل، بين التهديد والتصعيد تارة، والتهدئة وإبداء المرونة أخرى، أفقدت أيّ تهديدات للرئيس التركي قيمتها، وجعلته يبدو كما لو كان مصاباً بالشيزوفرينيا.

والواقع أنّ حديث أردوغان ليس شيزوفرينياً بقدر ما يعكس الحالة التركية المتأزمة في المتوسط، الفاقدة لأوراق تغيير حقيقية، حيث إنّها عملياً تقف أمام أمر واقع متمثل في اتفاقيات لترسيم الحدود معترف بها دولياً، وقادرة على النفاذ، فيما يُعدّ الإقدام على إشعال مواجهة عسكرية مع اليونان، ومن خلفها فرنسا ومصر، وسط دعم دولي وحشد ضدّ أنقرة، مغامرة تتجاوز خسائرها مكاسبها البعيدة.

أي إنّ تركيا عملياً ليس أمامها سوى "موازنة التهديد"، بحسب مصطلح الباحث في العلاقات الدولية مصطفى صلاح، وذلك "لمحاولة الحصول على المكاسب، خصوصاً في ظلّ تفاهم إقليمي ودولي حول ضرورة تحقيق الاستقرار في هذه المنطقة.

ويقول صلاح في حديثه لـ"حفريات": إنّ من مصلحة تركيا تسوية هذه الخلافات بسبب مواجهتها أزمات داخلية، بالإضافة إلى العقوبات الدولية التي من المحتمل فرضها بسبب عدم احترامها سيادة دول منطقة شرق المتوسط.

 

لم توقّع تركيا على الاتفاقية الدولية لقانون البحار وبالتالي لا يمكنهما استغلال أيّ ثروات طبيعية لدول شرق المتوسط

ويدخل ضمن سياسة "موازنة التهديد" حديث أردوغان المتلفز أول من أمس، غداة اجتماع وزراء الخارجية العرب عن بُعد، الذي حاول فيه إظهار تركيا القوية القادرة على التصعيد، في حين أنها عملياً ليس أمامها سوى الرضوخ لـ"الحوار"، بل إنها أكثر حرصاً عليه من أيّ طرف آخر، لكنه يظلّ غير يسير في ظلّ أزمة مع مصر من جهة، وتدخل فرنسي من جهة أخرى، لذا يكمن الحلّ الأردوغاني وقتها في المغالاة بالتهديد واستحضار القوة، لكي تقدم الأطراف الأخرى على الحوار.

ويفسّر الباحث في العلاقات الدولية أنّ تركيا تعتمد في سياساتها شرق المتوسط على احتمالية أن يكون التصعيد هناك بمثابة فرصة للاستفادة من الثروات المكتشفة حديثاً، من خلال استغلال مخاوف هذه الدول من تفاقم الوضع هناك وعدم الوصول إلى تسوية لهذه الأزمات.

اقرأ أيضاً: هل يدفع الأتراك ثمن مغامرات أردوغان وحساباته الخاطئة؟

وقد صعّد أردوغان نبرته صوب اليونان والاتحاد الأوروبي أمس قائلاً: "تركيا لن تسمح بالعربدة في جرفها القاري... لن نتراجع أمام لغة العقوبات والتهديدات"، بحسب "دويتش فيله"، كما أنه قال خلال الخطاب ذاته: إنّ تركيا منفتحة على "الحوار"، ثمّ عاد إلى مهاجمة أثينا، خالطاً الأوراق، ومستدعياً سلاحه الخطابي الأبرز للتعبئة "الإسلام"، حين اتهم أثينا "بإساءة معاملة الأقليات المسلمة والناطقين بالتركية على أراضيها".

واجتمع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الجمعة الماضي، عبر دائرة تلفزيونية، وانتهى الاجتماع إلى تحميل أنقرة مسؤولية خفض التوتر، ودعوها إلى وقف التصعيد والعودة إلى طاولة المفاوضات، في وقت طالبت فيه اليونان الاتحاد بفرض عقوبات على أنقرة.

وتجدّد الخلاف بين تركيا واليونان حول التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، عقب توقيع الأخيرة اتفاقاً لتعيين الحدود البحرية مع مصر، ما دفع تركيا إلى إرسال سفينة للتنقيب عن الغاز في منطقة متنازع عليها، حيث تدّعي كلّ دولة تبعيتها لجرفها المائي.

 

باحث: تركيا عملياً ليس أمامها سوى "موازنة التهديد" في محاولة للحصول على المكاسب

وكانت ألمانيا قد نزعت فتيل أزمة مماثلة في تموز (يوليو) الماضي بين الدولتين، غير أنّ اتفاقاً لترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، في 6 آب (أغسطس) الماضي، أثار غضب تركيا، التي أرسلت سفينة للتنقيب عن الغاز الإثنين الماضي مدعومة بسفينتين عسكريتين، فيما أعلنت اليونان حالة التأهب، وأكّدت أنها لن تصمت على "استفزازات تركيا".

وتأزّم الموقف التركي مع إعلان فرنسا تعزيز تواجدها العسكري في المتوسط لمراقبة التوترات. وتصاعد الصدام خلال الشهور الأخيرة، على خلفية الملف الليبي؛ لأنّ توغل تركيا في ليبيا يهدّد النفوذ الفرنسي التاريخي في أفريقيا.

وبدأت المناوشات إثر التصعيد التركي، حين اصطدمت سفينة حربية يونانية بأخرى تركية، الأربعاء الماضي، ووصف مصدر عسكري يوناني الواقعة بـ"الحادث".

تصعيد عسكري محدود

ويرى صلاح أنّ تلك المناوشات ربما لن تكون الأخيرة، "في ظلّ عدم احترام تركيا للاتفاقيات الموقعة حول ترسيم الحدود البحرية بين دول المنطقة، وإرسالها ٣ سفن للتنقيب عن الغاز هناك، فمن المحتمل أن يتسبّب ذلك في زيادة مستوى التصعيد العسكري بينهما، خاصّة بعدما أعلنت اليونان وضع الجيش في وضع الاستعداد لمواجهة التحرّكات التركية، والتي قد تكون مواجهات عسكرية محدودة، ربّما تتطوّر إلى مواجهة عسكرية شاملة".

اقرأ أيضاً: إمبراطورية أردوغان تجذب الأعداء وتنفر الأصدقاء

لكنه في الوقت ذاته، أشار إلى أنّ الدول الأوروبية تولي اهتماماً كبيراً بهذه المنطقة،  خاصة أنّ استقرار الأوضاع بداخلها قد يساهم في سدّ احتياجات هذه الدول من الغاز، وضمن السياق نفسه، فإنّ هناك رفضاً أوروبياً لتحرّكات تركيا غير المشروعة هناك، كمصدر من مصادر تهديد الأمن الإقليمي الأوروبي.

ويوضح الباحث في العلاقات الدولية السيناريوهات المستقبلية للصراع في سيناريوهين، قائلاً: إنه بعد توقيع اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، وبعد اتفاق ترسيم الحدود بين اليونان وإيطاليا، لم يعد لتركيا أيّ مدخل باتجاه ليبيا يمكن أن يتوافق مع قواعد القانون الدولي، خاصّة بعدما رفض سكرتير عام الأمم المتحدة إيداع الاتفاق البحري الذي أبرمته تركيا مع حكومة السراج في ليبيا، ولم يعتمده البرلمان الشرعي الليبي، ومن ناحية أخرى لم توقّع تركيا على الاتفاقية الدولية لقانون البحار، وبالتالي لا يمكنهما استغلال أيّ ثروات طبيعية في المناطق الاقتصادية لدول شرق المتوسط.

 

حمل وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي باجتماع الجمعة الماضي أنقرة مسؤولية خفض التوتر

وأضاف: هناك مسارات عديدة أمام تركيا في إطار السعي نحو الحصول على بعض الامتيازات من هذه المنطقة؛ أوّلها يتمثل في محاولة التوافق مع هذه الدول فيما يتعلق بالانضمام إلى منتدى شرق المتوسط، الذي يعتبر الآلية الجماعية للتنسيق بين دول شرق المتوسط حول ترسيم الحدود وتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة لكلّ دولة، وقد يكون هذا المسار مدعوماً داخلياً في ظلّ تراجع الاقتصاد التركي، وضغط الرأي العام التركي الهادف إلى عدم انخراط أنقرة في أزمات إقليمية ودولية.

وهناك مسار آخر يتمثل في اتجاه تركيا إلى استمرارها في تصعيدها العسكري والمضي قُدُماً في التنقيب عن الغاز في المناطق الاقتصادية الخالصة لليونان، وهو الأمر الذي سيضع تركيا في موضع ضعيف في مواجهة المجتمع الدولي، باعتبار أنّ هذه التوجّهات تمثل تهديداً للأمن والسلم الدوليين، وهو ما يمكن أن يساهم في زيادة الضغوط عليها التي سوف تتراجع بفعلها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية