تصدّر خبر اتفاق المفاوضين الأمريكيين مع نظرائهم من حركة طالبان الأفغانية، على إطار مقترح لاتفاق سلام يضع حدّاً للصراع، نشرات الأخبار منذ أيام، معلناً انخراط أمريكا في تفاوض جاد من أجل الخروج من المستنقع الأفغاني، الذي غرقت فيه قبل ما يقرب من عقدين.
اقرأ أيضاً: من نفّذ هجوم كابول.. طالبان أم داعش؟
حضرت أمريكا في المشهد الأفغاني مع نهاية السبعينيات، عندما دعمت من سمّتهم بـ"مقاتلي الحرية"، ورعت، مع شركاء عرب، أكبر معسكر جهادي في العصر الحديث، التأم فيه مقاتلون عرب ومسلمون، يعتنقون أيديولوجيات متطرفة، وجسّد هؤلاء مع معظم الشعب الأفغاني التناقض الفرعي اللازم لإنهاء إمبراطورية الشرّ، الاسم الذي أطلق على الاتحاد السوفييتي السابق، والذي كان من أهم أسباب سقوطه؛ تلك الهزيمة المدوية التي لقيها بفعل هؤلاء المقاتلين، الذين سلحتهم أمريكا، وقدمت لهم كلّ ألوان الدعم.
أثبت الصراع الممتد عبر أعوام بين طالبان والحكومة الأفغانية أنّ كفّة طالبان هي الأرجح رغم التباين الهائل بالقدرات بينهما
وانقلب لاحقاً السحر على الساحر؛ حين رعت الساحة الأفغانية ميلاد تنظيم القاعدة، الذي جسّد خطراً حقيقياً على المصالح الأمريكية، منخرطاً في سلسلة من العمليات التي استهدفت تلك المصالح، سواء عبر تفجير سفارات أمريكية أو عمليات نوعية؛ كاستهداف المدمرة الأمريكية "كول" في سواحل اليمن، لتأتي العملية الأخطر والأشهر التي جسدتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، هذا العام الذي شهد إعلان تنظيم القاعدة مسؤوليته عن هذه العملية؛ حيث رفض تنظيم طالبان، الذي كان يحكم أفغانستان في ذلك الوقت، المطالب الأمريكية التي تقضي بتسليم بن لادن وأعضاء تنظيمه.
اقرأ أيضاً: بهذه الطريقة تعرقل طالبان محادثات السلام بأفغانستان
حين رفض الملا عمر، زعيم التنظيم، التسليم بالمطالب الأمريكية، تسبب ذلك بانخراط الولايات المتحدة في حشد تحالف دولي ضمّ 38 دولة، مع حشد أمريكي هو الأكبر بعد الحشد الأمريكي في العراق.
نجح الهجوم الأمريكي في إنهاء حكم طالبان، التي انحازت إلى الحدود الباكستانية؛ حيث الامتداد القبلي للبشتون، والجبال التي احتضنت مقاتلي الحركة في كلّ المشاهد السابقة، سواء في القتال مع السوفييت أو القتال مع شركاء الكفاح ضدّ السوفييت لاحقاً، بعد الصراع على السلطة الذي حسم لصالح طالبان التي بقيت في الحكم لخمسة أعوام، منذ عام 1996.
اقرأ أيضاً: طالبان وطهران.. ما سرّ المودة؟
انهارت سلطة طالبان، عام 2001، وأقامت أمريكا نظاماً حكومياً لم يحظَ بثقة الغالبية الأفغانية، لا سيما وأنّ البشتون يمثلون النسبة الأكبر من مقاتلي طالبان، ومن ثم بقي الصراع قائماً بين الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً ودولياً، وحركة طالبان بامتداداتها القبلية وحضورها العسكري، وإن بقيت بعيدة عن كابول، لكنّها بقيت قادرة على التحرك بنجاح في 70% من أفغانستان.
أثبت الصراع الممتد عبر أعوام، بين طالبان والحكومة الأفغانية، أنّ كفّة طالبان هي الأرجح، رغم التباين الهائل في القدرات بينهما؛ حيث نجح ما يقرب من 20 إلى 40 ألف مقاتل، هم قوام طالبان، وفق تقديرات وزارة الدفاع الأمريكية، في مواجهة وإحراج 350 ألف من الشرطة والجيش الأفغاني.
اقرأ أيضاً: طالبان تستهدف كابول على خلفية صراعات عرقية
لم تنجح الجهود الأمريكية في تأهيل القوات المسلحة الأفغانية، أو تعويم النظام السياسي الجديد داخلياً، ومع تصاعد الخسائر الأمريكية التي قدرتها المصادر الأمريكية بكلفة مالية تجاوزت ترليون دولار، مع كلفة بشرية تخطت ألفي قتيل وعشرات الآلاف من الإصابات في صفوف القوات الأمريكية، ظلت موجات الأمريكيين تنسحب في صمت ودون إعلان؛ حيث لم يتبقَّ من تلك القوات الأمريكية سوى العُشر، من أصل 140 ألف مقاتل أمريكي، بواقع 14 ألف جندي، لا يمارسون أي نوع من الأنشطة القتالية، فقط أنشطة تدريبة، وتوجيه، ويفكرالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بجدية في سحب نصفهم بشكل عاجل، بحيث يبقى ثمانية آلاف مقاتل، ينتمون لـ38 دولة، ضمن ما يعرف بالتحالف الدولي، الذي التأم هو أيضاً بإرادة أمريكية، ومن الوارد أن يغادر فور إتمام اتفاق سلام.
اقرأ أيضاً: اغتيال الزعيم الروحي لطالبان.. من هو؟
عملياً؛ أمريكا انسحبت من أفغانستان، والحديث عن اتفاق سلام هو محاولة أمريكية لحفظ ماء الوجه، لن تغيّر من حقائق القوى على الأرض شيئاً، والتي تقول بوضوح إنّ القوة الفعلية في الساحة الأفغانية الآن هي طالبان، التي مارست إستراتيجية الصبر في مواجهة خصومها بنجاح، سواء القوات الأمريكية أو القوات الحكومية، ومع تخلصها من الحمولة التي مثلتها العناصر الأكثر تطرفاً داخلها، والتي التحقت بداعش، أضحت أنها تملك مرونة أكبر، وخيارات أوسع في مواجهة خصومها.
أمريكا انسحبت فعلياً من أفغانستان والحديث عن اتفاق سلام هو محاولة لحفظ ماء الوجه لن تغيّر على الأرض شيئاً
ولكن مع الخروج الكامل للقوات الأجنبية، وتعهد طالبان بعدم توفير ملاذات آمنة للقاعدة أو غيرها من التنظيمات التي تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية، فإنّ هذا التعهد يبقى حبراً على ورق، بالنظر إلى انعقاد الإرادة الأمريكية على الخروج بأيّة نتيجة، ومن جهة أخرى؛ فإن انهيار تنظيم القاعدة في الداخل الأفغاني، وخروج زعيمه من أفغانستان، وفي غياب أيّة إستراتيجية لهذه المنطقة من العالم، بما يعكس حالة التخبط التي سيطرت على إدارة ترامب لكل الملفات، وشاهدنا كيف أعلن الخروج من سوريا قبل أن يتراجع نسبياً، تحت ضغوط بعض أركان إدارته، بما يعكس تخبطاً في القرار والسياسات تستفيد من قوى أخرى، ومنها طالبان، التي نجحت في إظهار مواقف قوى كإيران، وحتى روسيا، غريمها التاريخي، لصالح الخروج الأمريكي.
اقرأ أيضاً: من هو حقاني الذي نعته طالبان؟!
بهذا المنطق؛ تبدو طالبان مؤهلة بعد خروج القوات الأجنبية لالتهام القوات الحكومية، والسيطرة على كابول، ومن ثم العودة إلى حكم أفغانستان، ودون أيّة تعهدات جدية في مواجهة الأمريكيين.
المستقبل، لا شكّ مفتوح أمام العديد من الاحتمالات، والتي يبقى من بينها نجاح طالبان في بناء تحالفات تمكنها من حسم الصراع مع الحكومة الحالية، أو حتى الدخول معها بعد صراع مرير في حكومة ائتلافية، ستكون في صالح طالبان في النهاية التي قد تلتهم بالسياسة، ما لم تستطع التهامه بالحرب.