لعلّ أحوج شيء نصبو إليه في منطقتنا العربية، المنكوبة بالحروب والصراعات وثقافة التمييز والطائفية؛ هو ترسيخ قيم التسامح والتعايش والانفتاح على الآخَر، وتكريس نموذج السلام والإخاء بين بني البشر، بصرف النظر عن الجنس أو اللون أو العِرق أو الديانة أو المذهب أو المعتَقد.
جون لوك وتأصيل مصطلح التسامح
وفي عالمٍ تعدّ التعددية أظهر شيء من سماته، كان لزاماً أن تحتلّ قيمة التسامح فيه قسماً كبيراً؛ فلا خلاص من التعصب والمذهبية والطائفية سوى بإعلاء قيمة التسامح، وتأصيل مفهومها القانوني والتشريعي تأصيلاً عملياً، يقضي على أيّ تمييز أو تنافر بين بني البشر، الذين هم من أصل واحد، فما التسامح إلا قيمة تذيب الخلافات والفوارق للقضاء على العنف والإرهاب ومجافاة الآخَر؛ فالتسامح هو العامل الحاسم في ترسيخ الحوار المشترك، والتعاون المثمر، وتبادل المنافع والفرَص، لتحقيق التنمية والرخاء، فضلاً عن الأمن والاستقرار، والتسامح الآن، تحديداً، ليس خياراً، لكنّه أمرٌ حتمي لتكريس الحوار والتفاهم والتعايش السلمي بين الأفراد والجماعات.
اقرأ أيضاً: الدين والدم والسلام
ورغم وجود جذور لقيمة التسامح في بنية العقيدة الإسلامية، إلا أنّ هذه اللفظة قد ظهرت وتبلورت في عصر التنوير في أوروبا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، خصوصاً عندما نشر الفيلسوف الإنجليزي، جون لوك ( (John Locke (توفّي 1704)، رسالته في التسامح، التي دعا فيها إلى القضاء على بنية التفكير الأحادي المطلق، ونبذ روح التعصب الديني، وإعلاء شأن العقل، وتأسيس مفهوم التسامح على طائفة من الحقوق والمبادئ التي تعتمد على التمييز بين مهمة الحكومة المدنية ومهمة السلطة الدينية، ومبدأ المساواة في الحقوق بين جميع الطوائف الدينية.
الإمارات أنموذجاً عمليّاً في التسامح
تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج جدّ مثالي للدولة التي تتبنى إستراتيجية قانونية ودستورية وعملية، لتعميم وتوطين ثقافة التعايش الخلّاق، والانفتاح على الآخر، واحترام العقائد والمذاهب كلها؛ حيث أصبحت تلك الدولة، التي تقع في شرق شبه الجزيرة العربية، جهةً مفضلة عالمياً للإقامة والسياحة والترفيه وإطلاق المشروعات وتدشين الابتكارات، وتحقيق المراتب الأولى في مؤشرات السعادة على مستوى العالم، فتسبق بذلك، وهي الدولة التي تأسّست عام 1971، دولاً مركزية عريقة في المنطقة، بفضل تركيبتها التشريعية والقانونية والاجتماعية، التي تزكّي ثقافة السلام واحترام عقائد الآخرين، وتنمّي قيم وأساليب التسامح والتعايش والتعاون المشترَك الفعّال بين الإنسان وأخيه الإنسان، ليس عن طريق التنظير وعقد المؤتمرات والمهرجانات، بل عن طريق التنفيذ عملياً، فتلك القيم جميعها باتت تمثِّل أسلوب حياة، ونمطاً إنسانياً يلمسه المواطنون والمقيمون، الأمر الذي جعل من دولة الإمارات، ذات الأغلبية المسلمة السُّنية، تحتضن ما يقرب من مئتي جنسية مختلِفة، وتستقبل أكثر من 15 مليون سائح سنوياً، وبها نحو أربعين كنيسة، فضلاً عن اكتمال بناء أكبر معبد هندوسي في الإمارات، وذلك في منطقة الوثبة بإمارة أبوظبي، وهو المعبد الذي ما يزال يثير جدلاً لا ينتهي، إنْ في داخل الإمارات وإنْ في خارجها، لكن على أيّة حال؛ فإنّ الحكومة هناك لا تنفّذ إلا ما تمليه عليها إستراتيجيتها واقتناعاتها الذاتية التي ترتضيها منذ أسّس الأب الراحل، زايد بن سلطان، تلك القيم مع الدولة، فسمح ببناء بعض الكنائس إبان رئاسته الدولة، وليس هذا المعبد الهندوسي هو الأول من نوعه في الإمارات؛ ففي عام 1958، سمح الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم بقيام معبد هندوسي في دبي، فأقيم في الطابق الأول في أحد مباني السوق القديمة في بور دبي، بيد أنّه كان معبداً للهندوس والسيخ معاً، لينفصل عام 2012 السيخ عن الهندوس، ويكون معبدهم، وحدهم، في جبل علي.
جذور التسامح في الإمارات وفعالياته العام 2019
الدستور الإماراتي ينصّ صراحة على حريّة الأديان، لكن وَفق العادات المتبعة، وتحترم الحكومة الإماراتية نصّ الدستور، وتحاول تقديم التسهيلات الإدارية والعقارية والأمنية، نوعاً ما للأديان الأخرى عند رغبتهم في بناء دور عبادة خاصة بهم، ويكون حاكم كلّ إمارة من الإمارات السبع مطلعاً بالموافقة من عدمها؛ فلكل حاكم الحق في قبول أو رفض بناء معبد لأيّة طائفة كانت في إمارته، وهذا هو السبب الرئيس في اختلاف انفتاح كلّ إمارة على الأديان عن الإمارة الأخرى، فالحكم في كلّ منها يكون ذاتياً، لكن يجمعها كلها وجود تسهيلات وعدم فرض رسوم باهظة على دور العبادة تلك، وتأتي إمارة الشارقة في المقدمة؛ فهي لا تفرض ضرائب الماء والكهرباء على دور العبادات.
الإمارات نموذج جدّ مثالي للدولة التي تتبنى إستراتيجية قانونية ودستورية وعملية لتعميم وتوطين ثقافة التعايش الخلّاق والانفتاح على الآخر
وبحسب الموقع الإلكتروني لحكومة الإمارات؛ فقد أعلن، الشيخ خليفة بن زايد، في الخامس عشر من كانون الأول (ديسمبر) من العام الماضي؛ أنّ عام 2019، الحالي، هو عام التسامح في دولة الإمارات، ويهدف هذا الإعلان إلى إبراز دولة الإمارات عاصمة عالمية للتسامح، وتأكيد قيمة التسامح كونها امتداداً لنهج زايد مؤسس الدولة، وعملاً مؤسسياً مستداماً يهدف إلى تعميق قيم التسامح والحوار وتقبّل الآخر، والانفتاح على الثقافات المختلفة، كما استُحدِث منصب وزير دولة للتسامح، للمرة الأولى في دولة الإمارات، في شباط (فبراير) 2016، وبعده في شهر حزيران (يونيو) من العام نفسه، اعتُمد البرنامج الوطني للتسامح، بهدف إظهار الصورة الحقيقية للاعتدال، واحترام الآخر، ونشر قيم السلام والتعايش، لتكون الإمارات بذلك كلّه أنموذجاً متفرداً بين دول المنطقة جميعها، لذلك لم يكن غريباً أن تكون زيارتها ضمن جدول زيارات البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان، في شباط (فبراير) 2019، وكلّ ذلك يأتي دليلاً قاطعاً على حالة التسامح الديناميكية التي تحياها تلك الدولة، على المستويات كلها، حتى أنّ اتحاد كتّاب وأدباء الإمارات والاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب ينظمان معاً، في 19 كانون الثاني (يناير) الجاري، وعلى مدى أربعة أيام، ندوة كبرى تحت عنوان "ثقافة التسامح وبناء الهوية بين الأنا والآخر"، من المرتقب إقامتها في أبوظبي، عاصمة التسامح العالمية، كنشاط مصاحب للمؤتمر العام السابع والعشرين للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، بمشاركة أكاديميين وباحثين متخصصين، من الإمارات وكلّ أنحاء الوطن العربي، لتثبت الإمارات، كلّ حين، أنّها عاصمة التسامح في بلاد العرب.