تكثر الأعمال الدرامية التاريخية، التي تتناول حياة الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد، وغالباً ما تدور أحداث العمل حول الواقعة الأكثر بروزاً خلال فترة حكمه التي امتدت 23 عاماً، والمعروفة تاريخيا بـ"نكبة البرامكة"، تلك الواقعة التي تثير شجون القومية الفارسية من جهة الفُرس، وتثير غضب العرب تجاه منافسيهم على كرسيّ الخلافة، لتصبح محل جدلٍ كبير، كما تجلى في المسلسل الذي عرض في رمضان 2018، ويحمل اسم هارون الرشيد، ولاقى غضباً واسعاً من الإيرانيين.
البرامكة وثورة العباسيين
"أرى خلل الرماد وميض جمر - ويوشك أن يكون له ضرامُ
فإنّ الـنـار بالعــــــودين تُذكـى - وإنّ الحـــرب أولها كـــلامُ
إذا لم يطفئها عـقـــــــلاء قوم - يكون وقودها جثث وهــــامُ
أقول من التعجب ليت شعري - أأيقاظٌ أميّة أم نيـــــــــــــامُ"
هذه كانت من أشعار أبو مسلم الخراساني، وهو شاعر من بلاد فارس. وتمتد جذور الصراع العربي الفارسي، بامتداد عمر الدولة الإسلامية، ليمر بمراحل وأشكال مختلفة، وقد ساعد هذا الصراع العباسيين واستغلوه للوصول إلى حكمهم؛ حيث حكمت العصبية العربية الدولة دولة بني أمية، مما أغضب الفُرس وغيرهم من العجم، الذين تم تهميشهم وإقصاؤهم من تقلد المناصب أو المشاركة في الحُكم، بل وتم تأسيس الشعوبية الأولى في الدولة الإسلامية، واحتدت نقمتهم على دولة الخلافة.
"لا يُغمد سيفان في جرابٍ واحد" تلك الحكمة التي تناقلها العرب يمكنها أن تلخص أسباب الصراع العربي الفارسي
وإذ ينشغل الأمويون بحربهم ضد الخوارج والعلويين، وسوى ذلك من الحركات العربية المناوئة لحكمهم، ينتشر العباسيون بدعوتهم، التي أيدهم فيها الفرس من أهل خُراسان والولايات الأخرى، فأيدوهم ونصروهم، وقاد هذه الدعوة أبو مسلم الخُراساني الذي قتله فيما بعد أبو جعفر المنصور، على الرغم من تزعمه الثورة ضد بني أمية في بلاد فارس، إلّا أنّ خشية المنصور من الخراساني بلغت ذروتها حين التفّ حوله الناس، فارتاب أن يستولى على الحكم، فاستشار من حوله ليقترحوا قتله، ففعل المنصور، وثار الناسُ من جديد، حتى زمن المهديّ ابن المنصور الذي اتخذ من خالد البرمكيّ وزيراً له، وتم احتضان أسرة البرامكة مرة أُخرى من قِبل خلفاء بني العباس.
أزمة البرامكة مع الخلافة
في كتابه "البداية والنهاية" رصد ابن كثير أزمة البرامكة مع الخلافة منذ مقتل أبو مسلم الخراساني، ولم يهتدِ إلى أسباب واضحة أدت لانفجار الأزمة في عهد الرشيد إنما هي مجموعة من العوامل والأفعال التي ارتكبها البرامكة، حوّلت الدفة وجعلت الخليفة ينقلب عليهم، وتضاربت في ذلك أيضاً الأقوال التي تجعل الرشيد صاحب حقٍ في انقلابه على وزرائه الأوفياء، وآراء أخرى تدين الرشيد وتصفه بالحاكم الفاسد المستبد، الذي اتصف عهده بالبذخ والإنفاق الذي لا داعي له، وتصريف أموال الدولة في غير موضعها، وتشبهه بقادة الفُرس، بعد أن كانت الخلافة الإسلامية خالية من مظاهر البذخ والترف التي كانت لغيرهم من الملوك، فبينما تشبه الأمويون في قصورهم ومقرات حكمهم بقياصرة الروم، انتهج العباسيون مظاهر قادة الفرس من أشكال القصور ومظاهر الترف واكتناز الذهب والفضة الذي مارسه بنو العباس كما يُستنبطُ من كتاب "ألف ليلة وليلة"، أحد أشهر أدبيات التراث العربي، والذي حل هارون الرشيد كأبرز شخصياته، ووصف مظاهر عزّه، الذي أغضب البرامكة منه، وكان هذا ما أيده الباحث أحمد أمين في كتابه "هارون الرشيد".
دولة الرشيد والعصر الذهبي
دارت أحداث مسلسل "هارون الرشيد"، الذي ضم مجموعة من نجوم سوريا والسعودية والكويت والمغرب، وأخرجه السوري عبدالباري أبو الخير، حول أهم واقعتين في حياة الرشيد، وهما محاولة أخيه الخليفة موسى الهادي سحب ولاية العهد منه، ومنحها لابنه الطفل جعفر، فباغته الموت قبلها والذي كانت أمه الخيزران سبباً فيه كما أوضح المسلسل، والحادث الثاني هو صراع البرامكة مع الرشيد، والذي انتهى بنكبتهم، حيث سلط المسلسل الضوء عليها بشكلٍ كبير، ولكن كما أبرز المسلسل ما فعله البرامكة بالسلطة، فقد أبرز أيضاً مظاهر الترف والبذخ التي كانت على عهد الرشيد، وما يدور في جنبات قصر الخلافة من المؤامرات والفتن، والدسائس المستمرة، وحياة القصر الباردة؛ حيث يجد الإنسان نفسه في صراع مع كل شيء، ولا يملك مفراً منه، ليُخرجنا من الصورة المتخيلة عن يوتوبيا الخلافة باعتبارها جنة سماوية في المخيّلة العربية، التي تنغمس في غياهب التاريخ، وتنوء به عن الإدراك الواقعي لمعارك السياسة التي تطأها أقدام كل من يبتغي اعتلاء كرسيّ الحكم، في كل زمان ومكان.
يسرد الكاتب جورجي زيدان في رواية "العباسة أخت الرشيد" التحولات التي مرت بها العلاقة بين العباسيين والبرامكة
في سلسلة روايات التاريخ الإسلامي للكاتب وعالم اللسانيات اللبناني جورجي زيدان، والتي ضمت أكثر من رواية لآل الرشيد، منذ حكم جده المنصور إلى معركة الأمين والمأمون على كرسي الخلافة، يسرد زيدان نكبة البرامكة في إحدى رواياته بعنوان "العباسة أخت الرشيد"، والتحولات التي مرت بها العلاقة بين العباسيين والبرامكة، فبعد مقتل أبو مسلم الخُراساني من قِبل المنصور، تدارك المهديّ هذا الخطأ بتعيين خالد البرمكي وزيراً له، وقد أقر لولديه الهادي والرشيد فضل البرامكة في إنشاء دولة بني العباس، بنص استعان به زيدان من روايات البغدادي والمسعودي: "إنّ البرامكة يا ولدي هم عماد هذه الدولة وقوام أبّهتها، وهذه بغداد كيفما تلفت، رأيت آثار تدبيرهم في معاهدها، فقد أقاموا فيها المكتبات، والحلقات، ومنازل الجند، ومآوي المرضى ومجالس القضاة وغرف الشرطة، وإنّ ما تراه من رواج العلم والفلسفة وتهافت أهل الذمة وغيرهم على ترجمة كتب اليونان والفرس إنّما أصله ترغيب البرامكة فيه بالبذل والعطاء"، فالواضح من مثل هذا النص التاريخي ما كان من تأثير للبرامكة في تأسيس الدولة، ومدى سلطانهم وتحولهم لمركز القوى في الخلافة العباسية.
صراع لا يطويه الدهر
"لا يُغمد سيفان في جرابٍ واحد"، تلك الحكمة التي تناقلها العرب يمكنها أن تلخص أسباب الصراع العربي الفارسي الذي يتخذ أشكالاً مختلفة وينفجر لأسبابٍ متباينة، يمكن إرجاء جميعها لتلك المقولة، حيث صراع القوى ومراكز السلطة، إلّا أن جذور هذا الصراع تمتد من عمر الدعوة المحمدية، فالنظرة الدونية من جانب الفرس تجاه العرب الذين أصبحوا مركز القوى في المنطقة، بعد بزوغ فجر الإسلام في الجزيرة العربية، خلقت حرباً باردة بين القومية الفارسية، والقومية العربية، اللتين أصبحتا في صراع على النفوذ والقوى وكرسيّ الحكم، وأصبحت الكفة الراجحة للعرب بسلطان الدعوة النبوية التي منحتهم كرسي الخلافة، فتحولت النظرة الدونية من العرب إلى الفرس، ليطلق عليهم العرب "الموالي، والعلوج"، وغيرها من المسميات التي تعكس شأنهم الضئيل في نظر العرب، وهذا كان سائداً بشدة في تاريخ الدولة العربية التي تتحدد بعمر دولة بني أمية (41هـ - 130هـ)، حيث أظهرت تلك النعرات القومية العربية ما عُرف بظاهرة "الشعوبية"، وهذا ما أكدّه لـ"حفريات"، مدرس التاريخ الإسلامي بجامعة طنطا، الدكتور محمد فيّاض؛ حيث إنّ "الدولة العباسية استثمرت الفرس في قيام دولتهم، واستطاع الفرس أن يحصلوا على نفوذ سياسي كبير، لم يكن لهم من قبل، وأنّ ما حدث من انقلاب الرشيد عليهم كان له سبب مباشر، وسبب آخر غير مباشر، فالسبب المباشر، كان الرواية التاريخية الأشهر، والتي أيدها ابن خلدون في مقدمته، وهي العلاقة التي استشعرها الرشيد بين جعفرالبرمكي (أخيه بالرضاعة)، وبين أخته العباسة بنت المهدّي، فزوجهما الرشيد بشرط ألّا يختلي بها، ولكن وقع المحظور وحملت العباسة من جعفر، ولما افتضح أمر حملها، أمر بقتل جعفر وكل البرامكة ومصادرة أموالهم".
د.فيّاض: ما عاشه التاريخ الإسلامي يسير في خطوط متوازية ويفجر الصراعات دوماً في قضايا بعينها
ابن خلدون يستنكر في مقدمته ما فعلته العباسة، من منظور عنصري، بأن تقترن عربية برجل فارسي، ولكن ما أوضحه ابن خلدون فيه وجه من الصحّة، ويتمثل في استغلال الرشيد لتلك الحادثة للإطاحة بهم، وذلك لاستفحال نفوذهم بشكل جعل الرشيد يشعر بالتهميش، وهذا هو السبب غير المباشر، ففي رواية للطبري قبيل نكبة البرامكة يصف أقدام الخيول بأنها كانت لا تعد ولا تحصى أمام بيت البرامكة، وأمام بيت الرشيد، لا خيول ولا جند، وكان أي مُطالب يلحق بالدولة يستجدي البرامكة، فهم من يمنعون أو يعطون، فكان لا بد للرشيد من التخلص منهم".
اقرأ أيضاً: ثورة الزنج وحدت العبيد وانتصرت للفقراء.. فماذا كان مصيرها؟
ويضيف الدكتور فيّاض، بأنه بالرغم من الدور الكبير للبرامكة في تربية الرشيد وابنه المأمون وهو ما تسبّب لاحقاً في الصراع بين الأمين والمأمون، إلّا أنّ ذلك لم يمنع الخليفة من الإطاحة بالبرامكة، والتنكيل بهم ومصادرة أموالهم، لأّنّ السلطة لا تحب أن يُتنازع عليها، فما عاشه التاريخ الإسلامي يسير في خطوط متوازية، ويفجر الصراعات دوماً في قضايا بعينها. لذا كانت نكبة البرامكة أحد أهم محطات الصراع العربي الفارسي الذي لا يخمد، ويتجدد وينبعث في صور أخرى.