نعيم صبري يوثق زمن الطيبين في حي شبرا برفقة نجيب محفوظ

نعيم صبري يوثق زمن الطيبين في حي شبرا برفقة نجيب محفوظ


26/08/2018

أجرى الحوار: سامح فايز


كتب يوسف القعيد عن رواية "شبرا" قائلاً: "على الرغم من ضخامة عدد صفحات رواية "شبرا" 234 صفحة، إلا أنّ صاحبها نعيم صبري، باعتباره من رواد جلسات نجيب محفوظ، قد قرأها لنجيب، على مدى جلسات امتدت لشهور طويلة، قبل أن يدفع بها إلى المطبعة، قال لي نجيب محفوظ إنّ الرواية أعجبته لسببين، الأول: أنها تقدم حياً بأكمله، هو حي شبرا بسكانه، وهذا لون جديد من الكتابة الروائية، فهو لا يكتفي بتقديم أسرة، أو سكان عمارة، ولكن يقدم حياً. الأمر الثاني: أنه يقدم أفضل ما في أبطاله، لدرجة أنني عندما كنت أستمع إليه، وهو يقرأها لي، كنت أتمنى لو أنّ الناس في الواقع بهذا القدر من الطيبة ولو كانوا هكذا، لاختفت الهموم والأحزان من الدنيا".

هكذا وصفها محفوظ، وهكذا وصلتني حين بدأت بتصفح الرواية صباح يوم جمعة على مقهى سان ستيفانو بشارع الترعة البولاقية في حي شبرا. أردت أن أقرأ الرواية في نفس العالم الذي  دارت فيه، قبل أن ألتقي بمؤلفها نعيم صبري في حوار صحفي لأسأله خلاله عن شبرا التي كانت، والتي وصفها فى روايته، وشبرا التي أصبحت آلآن.

رواية "شبرا"

كنت أتصفح الرواية، ثم أنظر للشارع أمام المقهى، فيه عاش مخرج سينما الواقعية الجديدة خيري بشارة، وفي حارة العسال المجاورة لمحل سكن بشارة دارت أحداث فيلمه "يوم مر يوم حلو"، والذي ظهرت فيه الفنانة سيمون بنت شبرا بأول أدوارها في السينما. بجوار المقهى أيضاً الشارع الذي عاشت فيه الفنانة نبيلة عبيد قبل أن يكتشفها عاطف سالم ويقدمها للسينما، وعلى يسار المقهى دكانة لبيع المواد الغذائية على طراز "المولات" العصرية، لكنها قديماً كانت سينما شبرا بالاس. السينما الأشهر في حي شبرا التي أصبحت أثراً بعد عين.

زمن رواية شبرا

نعيم  صبري شاعر وروائي مصري ولد عام 1946 بحي شبرا. دارت معظم أعماله في فلك حي شبرا. حين طلبت منه إجراء الحوار في المكان لم يتردد، وحين أقبل إلى المقهى بدأت رحلة عاد بنا خلالها نعيم صبري إلى شبرا في منتصف الخمسينيات، يقول صبري:"الأساس اللي خلاني أكتب الرواية هو ما كانت عليه مصر في الخمسينيات والستينيات أو في منتصف القرن العشرين. كتبتها العام 2000 وكنا نعاني من الإرهاب والتعصب الديني واغتيال فرج فودة، أقصد العنف الحاصل بسبب زيادة التعصب الذي أزعجنا بالتأكيد، خصوصاً وأنني ولدت وتربيت بحي شبرا في جو يخلو تماماً من أي ملمح من ملامح التعصب رغم أنه يضم أجناساً مختلفة من السكان".

المخرج خيري بشارة

يستكمل صبري حالة الحنين لشبرا القديمة قائلاً: "زمن رواية شبرا هو منتصف الخمسينيات لمنتصف الستينيات، في هذه الفترة كانت تتسم شبرا بروح تحدثت عنها في بداية الرواية، قلت: تتحدثون عن الآخر وقبول الآخر... أي آخر؟! ... لم يكن الآخر ذا وجود من الأساس، لم يكن معنى مدركاً في الوعي الجمعي. يتحدثون عن قبول الآخر، وكأنه طلب عزيز المنال في أيامنا هذه، لكن ذلك حدث ببساطة فيما مضى، وكان يحدث كل يوم بتلقائية وسلاسة".

اقرأ أيضاً: "سارة" عبّاس محمود العقاد: رواية الفتنة والغموض والأسرار

تحركت بصحبة الروائي نعيم صبري متجولاً في شارع شبرا، وكلما مر بمكان استعاد الحنين لسنواته الأولى التي قضاها فيه، قبل أن ينتقل إلى مدينة نصر محل سكنه الحالي، بعد أن فقدت شبرا رونقها الذي ميزها في النصف الأول من القرن العشرين، لكن رغم ذلك لازالت شبرا تمثل الحدث الأهم في حياة الراوي، عن ذلك يحكي قائلاً: "أول مجموعة كتب  ألفتها نشرتها على حسابي. أنا بتكسف أروح لناشر فباخدها من قاصرها وأطبع ألف نسخة فى مطبعة صديق ثم أهديها لأصحابي، وكنت حريصاً على إرسالها للصحافة بعد توجيه من الأستاذ نجيب محفوظ حين قال لي: عشان انت ما بتنشرش عند ناشر وبتنشر على حسابك أنصحك توديها للصحف". ورغم أنني أرسلتها للصحف ولا حد عمره نشر خبر عني. حتى نشرت رواية شبرا ونفدت أول طبعاتها وهى الوحيدة التي عرفها الناس لي، مؤكد لأن عنوان الرواية شبرا وليس لأننى المؤلف. في الطبعة التالية فكرت أنشرها في دار نشر، وذلك ما حدث بالفعل، وكنت سبب لمعرفة الناس لأعمالي".

أحسن ناس

يولاندا كريستينا جيجليوتي "داليدا"، بنت حي شبرا لوالدين إيطاليي الأصل ولدوا بمصر، رغم أنها تركت القاهرة في منتصف الخمسينيات متوجهة إلى باريس بحثاً عن عشقها للعمل في السينما، إلا أنها لم تنسَ مصر وحي شبرا، فغنت لهما في السبعينيات من كلمات صلاح جاهين: "اما انا ده انا من شبرا..من مصر واولادها الطعمين.. زي القمر بعيون سمرا..لابسين عقود فل وياسمين..والنيل بيضحك ويغني..فاكرني وبيسأل عني..أروحله ألقاه مستني..وجنب منة أحسن ناس".

نعيم صبري: قريت كل رواياتي التي تتحدث عن حي شبرا مسودات على نجيب محفوظ لحد ما توفى

داليدا غنت لمصر التي عاشت فيها طفلة وشابة دون أن تشعر يوماً أنها تنتمي لديانة غير الديانة، ولغة مختلفة، وعرق مغاير، كانت مصرية وفقط. عن هذه الحالة من الإخاء بين سكان حي شبرا يحكي نعيم صبري قائلاً: "روح التسامح والمحبة اللي في شبرا يتسم  بها كل ناس شبرا لأنهم عاشوا مع الأرمن والجريك والطلاينة والشوام واليهود، أقصى حاجة كنت تحس فيها ان فيه مسلم ومسيحي في النكت لما يتريقوا على القساوسة والمشايخ. كلمات زي الإخوة والأشقاء اللى بنسمعها النهاردة مكنتش موجودة زمان، كان عم فلان وعم فلان، عم سيد وعم حنا، مفيش حاجة اسمها الأشقاء والإخوة".

تحديد مكان لقاء أحد في حي شبرا يكون بذكر مكان السينما، خاصة مع الجيل القديم من أبناء شبرا، هكذا طلب الروائي نعيم صبري أن ألتقيه أمام سينما دولي، وحين جلست في مقهى سان ستيفانو لم يعرف موقعي بالتحديد إلا حين أخبرته أنني بجوار سينما شبرا بالاس، علما بأنّ السينما تهدمت وحل مكانها "سوبر ماركت" إلا أنها لازالت باقية فى أذهان أهل شبرا. يفسر ذلك نعيم صبري قائلاً: "الطفولة أكثر شيء مبهج فيها السينما، ودي كانت قبل التلفزيون، أنا بكلمك منتصف الخمسينيات، لما كنا نروح نشوف أفلام إسماعيل ياسين وفريد الأطرش، لما كنا بنشوف أفلام زي "فاطمة وماريكا وراشيل"، و"حسن ومرقص وكوهين" عناوين الأفلام بتوضحلك كنا عايشين إزاي، مسلم ومسيحي ويهودي لكن النهاردة بقى حسن ومرقص وممكن في يوم يبقى حسن بس. أهل شبرا أحسن ناس لأنهم كلهم كانوا واحد، مثلاً العمارة اللي كنت ساكن فيها كان فيها عيلة يونانية وعيلة أرمينية وكلنا كنا أهل".

رواية "حافظ بتاع الروبابيكيا"

توقف نعيم صبري قليلاً أمام المدرسة التوفيقية، ليستعيد ذكريات المدرسة التى أمضى فيها تعليمه الثانوي، يشير بيديه إلى باب المدرسة الحالي: "باب المدرسة قديما مكنش هنا، كان مكانه ملعب كرة قدم كبير".

على مدخل المدرسة التوفيقية كتب بخط واضح، تأسست عام 1881. تخرج في هذه المدرسة العريقة والأشهر في حي شبرا طلعت حرب مؤسس اقتصاد مصر الحديث، والكاتب الكبير جمال حمدان، والفنان عماد حمدي. حالة من الحزن بدأت ترسم خيوطها على وجه الروائي نعيم صبري الذي يخطو بقدميه في شوارع شبرا لكنها أصبحت فى حال غير الذي كانت عليه حين كان شاباً آنذاك في منتصف الستينيات.

اقرأ أيضاً: "بيرة في نادي البلياردو" ضمن سلسلة "الشيوعي في الرواية المصرية"

يكمل صبري السير متذكراً بداياته مع الكتابة، التي وصف  خلالها شبرا التي عرفها: " قريت كل رواياتي مسودات على نجيب محفوظ لحد ما توفى، آخر رواية قرتهاله كانت "حافظ بتاع الروبابيكيا" في 2006، هو كان مهتم إني أقراله رواياتي، بدأت الكتابة من أول الثمانينات بكتابة الشعر، فكرت فى كتابة رواية لكن أصابني الخوف، لم أملك وقتها جرأة كتابة رواية، فبدأت بكتابة ذكريات الطفولة باعتبارها تمارين على الكتابة".

صبري: قريت كل رواياتي مسودات على نجيب محفوظ لحد ما توفى

يوم مر يوم حلو

هكذا وصف المخرج خيري بشاره حال أبطال فيلمه الذي حمل نفس العنوان، الفيلم الذي قام بتصويره في حارة العسال التي تبعد أمتار قليلة عن منزله بحي شبرا، يصف خلاله حال الأسرة التي مات عائلها الوالد الموظف في فرقة الموسيقى العسكرية، وفاة الموظف العسكري تشير الى انتهاء مرحلة الستينيات وحكم الضباط الأحرار بعد ثورة يوليو، المرحلة التي ذهبت مع ذهابها شبرا كما عرفت قديماً، ليصف مخرج سينما الواقعية الجديدة كيف أصبح حال الأسرة من سيئ إلى أسوأ.

وعن سبب الحال الذي نعيشه جميعاً الآن يقول صبري: "اللى حصل يجاوب عليه علماء الاجتماع، لكن أعتقد أنّ نكسة 67 كان ليها دور كبير جداً، انت عارف لما الشعوب بتصاب بألم بتنغلق على ذاتها، فكان الجو ملائم لنمو التيارات الدينية، ومع ضيق الحال في مصر اضطر كتير من الناس انهم يخرجوا على البلاد العربية فطبعاً تعرضوا لتأثير التيارت الوهابية. دا غير إنه لما عبد الناصر ضرب الاخوان المسلمين كل الكبار فيهم سافروا الخليج والسعودية وعملوا أموال طائلة فبقى في إيديهم امكانات".

"يوم مر يوم حلو" هكذا وصف المخرج خيري بشارة أبطال فيلمه الذي جرى في حارة العسال بحي شبرا

يستكمل صبري سارداً أسباب التحول من وجهة نظره: "ألم النكسة الفظيع مش ممكن جيلكم يتخيل احنا اتألمنا قد ايه، القهرة اللي الشعب المصري كان فيها يوم خطبة عبد الناصر عن التنحي. خروج الناس كان طبيعي، دا صحيح، أوعى حد يقولك اتحاد اشتراكي هو اللي خرج الناس، أنا فاكر بيتنا في جزيرة بدران أول شارع شبرا قبل الخطبة ما تنتهي أول ما قال إن هو هيتنحى سمعت الصويت طلعت جري على البلكونة ستات ورجالة وشباب بيجروا في الشارع من الحزن".

اقرأ أيضاً: غسان كنفاني: رواية لم تكتمل

انتهت رحلتنا في حي شبرا ونحن نقف أمام أحد المولات التجارية في شارع خلوصي، يقول نعيم صبري:" هنا كانت سينما "أمير الصيفي"، يشير إلى العمارات المجاورة لمقر السينما التي لم تعد موجودة قائلاً: "كان الناس يجلسون في البلكونات يشاهدون الأفلام. تركت شبرا للأسف عام 1970 بعد تخرجي من كلية الهندسة وسافرت خارج مصر، عدت إليها عام 1977، لذلك لم أكن موجوداً في فترة التحول التي أصابت شبرا. حاجة منتهى الحزن، ولو عايز تعيش الاحساس دا انصحك تقرا رواية غبريال زكي "وصايا اللوح المكسور" برضه عن جو التعصب، اتكلم فيها عن التحول اللي حصل بالتفصيل. لكن أعتقد ممكن شبرا ترجع تاني زي ما كانت، لكن انت عارف التغيرات التاريخية بتاخد عشرات السنين ... الشعب المصري صمد قدام آلاف المصايب، دول كانوا بياكلوا بعض أيام المماليك!.. لكن دا شعب بيصنع الحضارة. ممكن يتعرض لنكسات صغيرة، ويقوم من تاني"

اقرأ أيضاً: وفاة شيخ الرواية السورية..حنا مينه


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية