"نحن" ضمير كان لا بدّ من استخدامه للإشارة إلينا نحن العرب، ولطرح سؤال: كيف يجب أن نكون واقعياً. تعدّدت المصطلحات المستخدَمة في وصفنا؛ فمرة "الدول النامية"، ثمّ "الدول المتخلّفة"، وأخرى "دول العالم الثالث"، وأيضاً "دول عدم الانحياز". لقد وصفت مصر وسوريا والعراق والجزائر واليمن الجنوبي الأسبق بدول طريق التطور اللارأسمالي، وهذه المفاهيم ما كان لها أن تحضر في الخطاب السياسي، أو الأيديولوجي، أو الاقتصادي، لو لم تأخذ المراكز دور هذه الدول ومكانتها بعين الاعتبار.
مصطلح "الدول النامية" حمل معنى مضمراً، هو: أنّ هذه الدول قادرة على تحقيق التنمية، أو النمو الاقتصادي، أو التحديث، فهي تسير في طريق ينقلها إلى مستوى أرقى في التطور التاريخي.
فيما عنى مفهوم "التخلّف"؛ وضع هذه الدول مقارنة بالعالم المتقدم الصناعي، والتقني، والعلمي، فصار لزاماً عليها طرح السبيل لتجاوز تخلفها عبر الخيار الاقتصادي. أما مفهوم "دول عدم الانحياز"؛ فقد حمل مضمون الاستقلال من القطبين، لتكون قوة ثالثة إلى جانب القوتين الكبيرتين آنذاك، قبل انهيار الإمبراطورية السوفيتية وملحقاتها. ومصطلح "دول طريق التطور اللارأسمالي"، ابتكره منظّرو الماركسية، للدلالة على أنّ تلك الدول آثرت التطور باستخدام الاشتراكية، لكنّها لا تزال في بداية إنجازها، وهذا الوصف لم يعد له وجود الآن.
تكمن المشكلة في أنّ المراكز كانت فاعلة دائماً، لكنّها لم تلغ فاعلية الأطراف، أمّا الآن؛ ففاعلية المراكز مطلقة
مفاهيم لم تبصر النور
فنحن إذاً، لم نكن بلداناً هامشية في حركة التاريخ المعاصرة، وخطابنا كان خطاباً يسعى لتغيير العالم، ومفعماً بمفاهيم: الثورة، الانقلاب، التحرر، الاستقلال، التنمية، القومية، الاشتراكية، هذه المفاهيم التي جاءت نقيضاً للاستعمار الجديد، التبعية، النهب، الاستغلال، ...إلخ.
لقد عُلِّقت الآمال على الجانب الثوري لتغيير العالم، وتحقيق التحرّر بالمعنى الشامل للكلمة، كان يبدو أنّ التاريخ يجري مجرى الآمال نفسها. لكن، إمّا أنّ التاريخ غير مجراه، أو أنّه جرى بطريقته التي لم نكن على علم بها. فإنّه بزوال المنظومة الاشتراكية الأوروبية، وتخلّي الصين عن دورها العالمي في التحرّر، وفشل حركات التحرر، خاصّة التي آلت السلطة إليها، في إحداث انقلاب في حياة المجتمع، وبزوغ أمريكا التي أصبحت القطب الوحيد في العالم، كلّ ذلك خلّف عجزاً رهيباً لأطراف ماتت آمال شعوبها، وصار المفهوم الجديد الذي يفسّر حركة العالم هو "العولمة".
موت الأطراف من جديد
أعادت المراكز التقليدية بناء نفسها من جديد؛ فها هي أوروبا الساعية إلى التوحيد، واليابان، وروسيا، دون أن ننسى ظهور العملاق الصيني الذي يرتّب لاحتلال مكانة منافسة في العالم في وقت قريب، فيما المركز الأمريكي يستغلّ هذه المرحلة الانتقالية لترتيب العالم على هواه.
فإنّنا نستطيع القول: إنّ الانقلاب الحاصل الآن في العالم هو موت الأطراف، وتحوّلها إلى جسد ينهش به المركز دون أي شعور منه بالألم، ولو دقّقنا في انقلاب كهذا، من زاوية فلسفة التاريخ، لما خالجنا الشكّ في أنّ عناصر القوة المجتمعة في إمبراطوريات العالم، خاصة الأمريكية، التي تحدّد مسار التاريخ العالمي لمرحلة لا تستطيع تحديد مدتها، هي عمياء إلى الحدّ الذي لم تعد تحمل مشروعاً إنسانياً حقيقياً، أو مبرراً زائفاً للهيمنة. وهذه القوى هي اقتصادية، وعلمية، وتقنية، وسكانية، توجهها جميعاً أيديولوجيا ذرائعية بامتياز، وليست العولمة، في حقيقتها، إلّا تحول المراكز بنسب مختلفة من حيث قوة الفعل، إلى فاعلين وحيدين في العالم على المستوى الاقتصادي، والسياسي، والثقافي، والأمني، والإعلامي.
تكمن المشكلة في أنّ المراكز كانت فاعلة دائماً، لكنّها لم تلغ فاعلية الأطراف، أمّا الآن؛ ففاعلية المراكز مطلقة كما تشهد على ذلك التجارة العالمية، والصناعية، وصناعة المعلومات، والتأثير الثقافي، ونمط الحياة، والتدخل المباشر بسلوك النخب السياسية الحاكمة في الهوامش.
هل الانقلاب الحاصل الآن في العالم هو موت الأطراف، وتحوّلها إلى جسد ينهش به المركز بلا ألم؟
ما الذي يجعلنا كالجسد الميت؟!
إنّ عناصر القوة المشار إليها تفعل فعلها الآن، وبطريقة تدعو للتأمّل، فإذا كنّا كعرب، منذ فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وحلفائه، وبعد احتلال العراق، وحتى الآن، عالم هامشيّ، أو يراد له أن نكون عالماً هامشياً.
فما الذي جعلنا هامشيين إلى هذا الحدّ، كأنّنا جسد ميّت؟ في الوقت الذي نعلم فيه بأنّ القوة، كانت وما زالت، المحرك الأساسي لتاريخ البشرية، القوة بمعناها الشامل، العسكري والتقني، والاقتصادي والثقافي والمجتمعي؟ أي ما الأسباب التي حولتنا إلى هامشيين؟
نحن العرب لم نجعل من التنمية المستقلة هدفاً أساسياً من أهدافنا على المستوى الاقتصادي والسياسي والثقافي والعلمي/ التقني؛ بل انتصر نمط الحياة التابعة، وهنا بالذات تغيرت العلاقة بين مفهومي الاستقلال والتبعية؛ إذ صار بإمكان الرأسمالية المتعولمة أن تهدّد بإغلاق باب تصدير السلعة، إن هي أرادت أن تعاقبنا، ولهذا تحوّلت الحاجة المتولدة رأسمالياً دون توقف، إلى عنصر انقلاب عالمي في علاقة الناس بالسلعة، ولمّا كانت البلدان وطيئة التقدم قد وقعت في شرك تعميم السلعة عالمياً، صار لزاماً عليها أن تلبي هذه الحاجات، عبر أعلى درجات التبعية، واستنزاف طاقاتها الاقتصادية، خاصة تلك الدول ذات الدخول الضعيفة.
لسنا هنا أمام حالة اقتصادية فقط؛ بل أمام حالة ثقافية أيضاً، فتعميم نمط الحياة، قد ولّد الثقافة المطابقة لمثل هذا النمط، وهكذا انهزمت السياسة القائمة على مفاهيم الوطنية والاستقلال، وتحولت خادمة لنمط الحياة العولمة.
وها نحن نستفيق على السؤال مرة أخرى: من نحن؟ وعلى حقيقة أنّنا يجب أن نسعى إلى تحقيق التنمية بمعناها الشامل؛ تنمية الإنسان أولاً، ومن ثم التنمية العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والثقافية، وأن نعلم أنّ العودة إلى الوراء مستحيلة، والوقوف في المكان نفسه مستحيل، وأنّه ليس أمامنا إلّا توظيف كلّ ما هو قوي لدينا للإجابة عن السؤال الأهم: كيف يجب أن نكون؟