إنّ الأزمة المجتمعية المتزايدة في البلدان الغربية-جرّاء تنامي إشكالات النظام الاقتصادي الليبرالي، وما صاحب ذلك من تصاعد أزمات الهُوية، والنزعات العنصرية والأحزاب اليمينية المتطرفة والحركات الشعبوية في تلك البلدان-هي المسؤول المباشر عن إرهاب مجزرة المسجدين في نيوزيلاندا، لكنّ ذلك، كما يُنقَل عن المفكّر أمين معلوف، لا يعني يقظة دينية مسيحية جديدة ضد "الخطر الإسلامي"، كما يراه (أيْ الخطر) تيارٌ يتنامى في الغرب، صار يتبنّى أفكاراً يجمعها عنوان هُوياتيّ كبير هو: "الاستبدال الكبير"... فماذا يعني ذلك؟
تُنادي نظرية "الاستبدال الكبير" بأنّ المسيحيين الأوروبيين البيض يتعرضون لاستبدال منظم بغير الأوروبيين خاصة من جانب العرب أو البربر
لقد عاد كتاب "الاستبدال الكبير" للكاتب الفرنسي رونو كامو إلى الواجهة الإعلامية بقوة؛ بعد أن استشهد به منفذ الاعتداء الإرهابي على مسجدين في نيوزيلاندا يوم الجمعة الماضي، وهو الذي نشر قبل ارتكابه للمجزرة مانفيستو يشرح فيه أفكاره العنصرية، ودوافع ارتكابه لجريمته، وعنونه بعنوان رونو كامو نفسه: "الاستبدال الكبير"، الذي يتحدث فيه الكاتب الفرنسي عن غزو ثقافي وديني واجتماعي للمهاجرين القادمين من دول شمال أفريقيا وجنوب الصحراء لفرنسا.
والواقع، بحسب إذاعة "مونت كارلو" التي قدّمتْ عرضاً للكتاب، أن رونو كامو في هذا الكتاب ينحت إطاراً فكرياً وأيديولوجياً لنظرية "الاستبدال الكبير"، وهي نظرية قديمة تبنتها الحركة النازية التي كانت تروّج للتهديد بقرب اندثار الشعوب الأوروبية البيضاء، وخطر اليهود على العِرق الآري. غير أنّ كامي، تضيف "مونت كارلو"، اختار المسلمين بدلاً من اليهود في نظرية "الاستبدال"، التي صارت تتبنّاها حركات اليمين المتطرف، واليمين المحافظ أحياناً؛ في فرنسا ودول غربية كثيرة، وتبني عليها مواقفها العنصرية تجاه المهاجرين المسلمين، وخطرهم على الهوية الأوروبية المسيحية. كما أنّ كامي تبنّى نظرية المؤامرة وبلور في كتابه نظرية الاستبدال الكوني، باعتبارها ظاهرة عالمية تهدّد المجتمعات الغربية بشكل عام، وبكونها مشجَّعة من قبل لوبي عالمي يخطط لها بدقة وبمنهجية،على حدّ زعمه.
وتشير "مونت كارلو" إلى أنّ كامو كان ينتمي إلى الحزب الاشتراكي في شبابه، قبل أن يتحول إلى الأفكار اليمينية المتطرفة. وفي الانتخابات الفرنسية الرئاسية الأخيرة أعلن دعمه لمرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان، التي طالما عبّرت عن إعجابها بأفكاره. وسبق لكامي أيضاً أن تعرّض للمحاكمة بسبب تصريحات اعتبرها القضاء عنصرية، وتمّ الحكم عليه بغرامة مالية عام 2014 لإدانته بالتحريض على الكراهية أو العنف بسبب أقوال أدلى بها في أواخر 2010 ضد المسلمين في لقاء عام في باريس. واعتبرت المحكمة أنّ الأقوال التي شكلت موضع الإدانة "تُعتبر تصويراً عنيفاً للمسلمين الذين قُدّموا على أنّهم "مستعمرون يسعون إلى جعل حياة السكان الأصليين مستحيلة، وإجبارهم على الفرار وإخلاء الأرض"، واعتبرت المحكمة أنّ أقوال الكاتب تُصوّر "بلا تحفظ"، المسلمين على أنّهم "محاربون غزاة هدفهم الوحيد هو تدمير الشعب الفرنسي وحضارته وإحلال الإسلام بدلاً منهما"!.
اقرأ أيضاً: اليمين المتطرف قنبلة العالم الموقوتة
وتُنادي نظرية "الاستبدال الكبير" بأن الكاثوليك الفرنسيين البيض، والمسيحيين الأوروبيين البيض عموماً، يتعرضون لاستبدال منظم بغير الأوروبيين، خاصة من جانب العرب أو البربر، من الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا، وذلك عبر الهجرة الجماعية، والنمو الديموغرافي.
كما أنّ نظرية "الاستبدال"، تتابع "مونت كارلو"، صارت عملة رائجة حتى في صفوف الكُتاب؛ مثل إيريك زمور؛ وميشال ويلبيك الذي جسدها في روايته "خضوع"، وتخيّل فيها فرنسا وهي خاضعة لسيطرة الإسلام، وتنتخب رئيساً مسلماً.
عنصرية وإرهاب "تفوق العِرق الأبيض"
وفي لفت للأنظار إلى أنّ هذا النوع من الإرهاب- بدافع تفوق العِرق الأبيض والعنصرية ضد المهاجرين أو غير البيض- ليس مجرد حوادث فردية معزولة، بل تأتي في سياق تحولات كبرى، على مستوى السياسة والاجتماع والقيم والأخلاق، تشهدها المجتمعات الغربية- قال تقرير أصدره "مركز دراسات العنف الداخلي المتطرف" التابع لـ"مدرسة السياسة العامة" في جامعة جنوب كاليفورنيا: "لعقود من الزمن، أرهب المتطرفون، بدوافع عنصرية، المجتمعات التي يكرهونها". وأشار التقرير، الذي نقلته صحيفة "الشرق الأوسط" إلى القتل الجماعي في عام 2015 بكنيسة "إيمانويل" الأفريقية في تشارلستون (ولاية ساوث كارولاينا)، والهجوم "الذي يشبه هجمات (داعش) في شارلوتسفيل (ولاية فرجينيا)، في عام 2017، والهجوم على معبد يهودي في بيتسبرغ (ولاية بنسلفانيا) في العام الماضي، وهذا العام "قضية الجندي الأبيض الذي وصف نفسه هكذا: (كريستوفر هاسون)، واستهدف سياسيين ديمقراطيين وصحافيين ليبراليين".
عاد كتاب "الاستبدال الكبير" للفرنسي رونو كامو إلى الواجهة الإعلامية بقوة؛ بعد أن استشهد به منفّذ هجوم نيوزيلاندا
وأشار التقرير إلى هجمات أخرى "لم تأخذ نصيبها من التغطية الإعلامية والمناقشات العامة"، قام بها "متعصبون بيض غير معروفين على نطاق واسع"، مثل: الهجوم بدوافع عنصرية على مذيع من أصول أفريقية في لينوود (ولاية واشنطن)، وقصف مسجد في بلومنغتون (ولاية مينيسوتا) من قِبَل اثنين من أعضاء ميليشيا قومية بيضاء، و"العنف المنتظم" الذي ترتكبه "رايز أباف موفمنت (حركة الصعود الأبيض المتفوقة)".
نفي المسؤولية
من جانبه، تمسك الكاتب الفرنسي المتطرف، رونو كامو، في سلسلة تغريدات هذا الأسبوع بالدعوة إلى "الثورة" ضد ما يصفه بأنّه "استعمار أوروبا" على أيدي المهاجرين، غير مبال، كما تقول صحيفة "النهار" اللبنانية، بأنّ سفاح نيوزيلندا، برنتون تارانت، استغل نظرية "الاستبدال الكبير" التي يسوّقها، لتبرير مجزرته الدامية التي أودت بـ 50 مصلياً في مسجدين، مكتفياً بتأكيده التنديد بالعنف، ونفيه أية مسؤولية له في ما فعله الشاب الأسترالي. واعتبر كامو أنّ القاتل استلهم موجة الهجمات التي شنّها مسلمون متشددون ضد فرنسا في السنوات الأخيرة.