الرسم والتصوير في المجتمعات المسلمة

الرسم والتصوير

الرسم والتصوير في المجتمعات المسلمة


27/02/2019

كان بمثابة صدمة مدوية قيامُ مقاتلي ما يعرف بتنظيم داعش بتدمير الآثار في الموصل، وما شرعوا فيه من هدم وتكسير للتماثيل الآشورية بالمتحف التاريخي، شمال العراق، والتي يعود تاريخها إلى أكثر من 4 آلاف عام، باستخدام الفؤوس، وهو الأمر الذي تكرر في ريف حمص الشرقي، عندما حاولوا سرقة بعض القطع الأثرية الرومانية من مدينة تدمر.
الجماعات التكفيرية واشتهاء الموت
بيد أنّ تلك الممارسات التي دأبت التيارات الجهادية والسلفية على القيام بها، من القاعدة إلى بوكو حرام، وحتى داعش، موجهة بالأساس، وطوال الوقت، ضدّ الذاكرة الإنسانية؛ حيث تعدّ تلك الآثار، بحسب تعبير الفيلسوف الفرنسي، جيل دولوز "مواجهة ضدّ الموت وموت الحضارة"، وهو ما تعمد إلى تصفيته وإنهاء وجوده تلك الكيانات التدميرية، التي تشتهي الموت والانتقام، وتقديم عناصرها قرباناً للعدمية.

بعد انتشار فتاوى تحريم الصور والرسم والتماثيل، جرى رفض تجسيد الأنبياء والصحابة وتعليق صورهم التي تمد الناس بالعون

في ظلّ هذه الصورة القصوى التي وصلت إليها عواصم عربية، تعرضت إلى مثل هذا المثال القاسي من التدمير واشتهاء الموت، وحفلت الوقائع داخلها بعناصر شديدة القتامة والمأساوية، فإنّ الأمر يتخطى كونه حدثاً عرضياً إلى اعتباره صورة إجرامية انتحارية تصل إلى المنتهى بغريزة الموت؛ حيث لا يوجد أيّ شيء سوى تبديد الحياة، كما يصف الفيلسوف الفرنسي، آلان باديو، في إحدى محاضراته، تعقيباً على الهجوم الإرهابي في باريس، قبل أربعة أعوام.
ويتسق فعل "داعش" وأخواتها، مع دعاية مضادة من الأصوات الأصولية والسلفية في غالبية البلاد العربية، ضدّ الرسم والتصوير، تتناوب باستمرار لمنع وجودهما، وتعمد إلى تحريمهما، وتهدف إلى تغطية التمثايل بالبلاستيك والشمع، بذريعة مخالفتها لأصول الدين والشريعة.
ففي القاهرة؛ غُطِّي رأس تمثال أم كلثوم، في المنصورة، قبل أعوام، وحُطِّم رأس تمثال طه حسين، في المنيا، إضافة إلى حرق تمثال المخرج محمد كريم.

هل رفض الإسلام فنّ الرسم والتصوير؟
ظلّ فنّ التصوير والرسم محايثاً للتاريخ الإسلامي، وجزءاً عضوياً منه، فقد ازدهر في مراحل، وانحسر في فترات جموده وتراجعه الحضاري، باعتباره أحد الأدوات التي عبر بها الفنانون عن متخيلهم الفني، خاصة فيما يتصل بالحياة والدين، ووصف العناصر الطبيعية والحياة الأخروية، بصورة جمالية متقنة؛ حيث جرى الاستعانة في العديد من الرسومات الجدارية بالنباتات والزهور، للتعبير عن الجنة ووصفها، وهو ما يمكن ملاحظته في فسيفساء إحدى جداريات الجامع الأموي الكبير في دمشق.

اقرأ أيضاً: "تفكيك منابر أثرية" يثير شكوكا بشأن العناية بالآثار في مصر
وعرف العرب التصوير في العصر الإسلامي المبكر، ولكن لم يصل لأيدينا أمثلة من هذا النشاط الفني من إنتاج ذلك العصر الإسلامي المبكر، حتى نستدل منه على أصالته المحلية أو تأثره بالفنون المجاورة، وبالتالي نتعرّف إلى مدى اعتماد العربي على نفسه أو مدى اقتباسه من غيره، وفق ما يشير الدكتور جمال محرز، في كتابه "التصوير الإسلامي".
بيد أنّ بعض الأمثلة تُظهر أنّ العرب اعتمدوا على فنون الحضارات السابقة، ثم بعد الفتح الإسلامي، اعتمدوا على الفنانين من البلاد التي فتحوها، فمثلاً؛ هناك استمرار للأثر الساساني في العراق وإيران، كما تأثر التصوير في الشام بالفنّ الهيلنستي والبيزنطي، فضلاً عن التأثير القبطي في مصر.
ويشير محرز إلى وفرة الرسوم الجدارية، التي تعود للقرن الثاني الهجري، في قصور الخلفاء الأمويين، في بلاد الشام، وكذلك في قصور سامراء، والحمام الفاطمي في منطقة أبو السعود بالقاهرة؛ حيث إنّ الرسوم الموجودة فيهما تميزت بتأثرها بالفنّ الساساني.
داعشي يحطم تمثالا في الموصل العراقية

الصحوة الإسلامية وتنميط التعبير الديني
راجت في القاهرة قبل نحو نصف قرن، وتحديداً، في الفترة التي سبقت ما عرف بالصحوة الإسلامية، صور دينية متميزة، تخالف الصور النمطية المنتشرة في الوقت الراهن، وتتصل بالتصورات التي راكمها التدين الشعبي، بصورة خاصة، حول الصحابة والأولياء والقصص الديني؛ حيث كانت تعلق في البيوت والمحال، بقوتها الرمزية، كوسيط مع الله وقوته المتعالية، تمدهم بالعون وتخفف من آلامهم.

اقرأ أيضاً: الأغنية الصومالية تقاوم الحرب والتحريم وتلاحقها الرداءة
تنوعت عناصر تلك الصور، بعضها كان للصحابة، وبعضها الآخر، يخص مشاهد الحياة الأخروية التي تصف الجنة، فضلاً عن الصور الفنية التي عبر عنها القصص القرآني، بهدف العظة.
وتولدت قناعة لدى الأغلبية المسلمة، بأنّ المسلمين لم يعتمدوا على الصور الدينية، التي تعبر عن نماذج دينية وشخصيات حفل بها التاريخ الإسلامي، سيما الصحابة، على خلفية انتشار فتاوى تحريم الصور والرسم والتماثيل، ورفض تجسيد الأنبياء والصحابة، وذلك على النقيض من المسيحية، التي تزخر جدران كنائسها، بالرموز والصورة وتتعدد الأقانيم على حوائطها وأسقفها، حول المسيح والعذراء والقديسين.
وإثر تحولات عديدة، غطت تلك الفترة التاريخية، التي عرفت فيها بيوت المسلمين، في القاهرة، صوراً دينية، مهمة ومتميزة في محتواها، وهي على تعددها وتنوعها، تخلد للعديد من المعاني والدلالات الدينية، تراجعت، وانعدم أثر تلك الصورة واختفت تماماً.
تمايزت تلك الصور، التي لم يعد لها أثر، بأنها تجاسرت على تقديم تصوير فني، يوثق لحوادث مختلفة، في التاريخ الإسلامي، في صورة تخييلية وجمالية، من حياة الرسولﷺ، والصحابة رضي الله عنهم، أو القصص الديني.
انحسار الصور الدينية في مصر
ولطالما كان الإنسان المتدين، يتحرى تشخيص المعطى الديني ورموزه، في صورة شبيهة به، تتجلى له، ويؤمن بقدرتها على الحضور؛ فليس مصادفة أن تجد العديد من المسلمين، على امتداد عقود القرن الماضي، وحتى ما قبل صعود الإسلام السياسي، في منتصف السبعينيات، وقبضته المتشددة على المجتمع، يعتمدون في تزيين جدران بيوتهم، على صور تتجسد فيها شخصيات دينية، من آل البيت؛ كالحسن والحسين، وعلي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، فضلًا عن صور أخرى، تتسع دلالاتها إلى ما ورد في القرآن الكريم من قصص؛ مثل: خلق آدم وحواء والخطيئة الأولى، باعتبارها أحداثاً مفتاحية، تتصل باللحظة التدشينية الأولى للإيمان، أو لحظة الفلق، التي عرجت بهم إلى محنة الإيمان والوجود، باختباراتها ومخاضاتها، ومن ثم بحثها عن الخلود.

اقرأ أيضاً: لماذا ما تزال تهم التحريم تلاحق فنون النحت والتصوير؟
فالصور التقليدية والشائعة اليوم، باتت المهيمنة، والتي من بينها، وضع مصاحف كبيرة، مزينة ومذهبة، وآيات قرآنية، مطرزة على أقمشة وأنسجة مختلفة؛ حيث ساهمت برواجها الشديد، في تأبيد وتنميط المزاج الديني، بلا اختلاف أو تمايز، وبغير قدرة على إنتاج فنّ جديد ومبدع، كما السابق.

مع صعود موجة التزمت تعرّض تمثال أم كلثوم في المنصورة لتغطية رأسه، قبل أعوام، وحُطِّم رأس تمثال طه حسين

تلك التيارات المتشددة والتكفيرية، أدّت هيمنتها المجتمعية إلى طمس مظاهر دينية، تتسم بالتنوع، وتضمر داخلها رؤية جمالية للعالم، متسامحة، وتخفف من وطأة الجمود والكراهية. بيد أنّ ذلك كله، قد أصابه الكسل والتراجع، في ظلّ تمدّد نفوذ أئمة التكفير.
العديد من تلك الصور والرسومات لم تكن تنتسب إلى فنانين؛ حيث خلت الصور من توقيع نستدلّ منها على هوية مبدعها، سوى اسم المطبعة التي قامت بطباعتها وتوزيعها؛ وهي "شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر"، والتي تعد أقدم المطابع والمكتبات الخاصة، التي أسستها أول عائلة شامية، وقد شاركت في حركة النشر بالقاهرة، منذ ما يقرب من قرن ونصف القرن.
تميزت المؤسسة التي جاء موقعها قبالة الجامع الأزهر، بنشرها العديد من كتب التراث والفقه والتفاسير، التي احتلت رفوف مكتباتها، وإلى جانبها هذه الصور والرسومات الدينية، التي لم تثر أيّة واحدة منها حساسية الضمير الديني، أو تخشى شعوره المحافظ والتقليدي، وهو ما ظل تقليداً يتداوله المصريون، حتى نهايات الستينيات من القرن الماضي، لكنها بدأت تتلاشى، في منتصف السبعينيات، وصعود المدّ السلفي والأصولي بالقاهرة.
وأضحت تلك الصور القديمة، بتنوعاتها، طيّ النسيان، بعدما جرى تهميشها ونبذها، وطالها الهجوم، وتكفير مقتنيها، وتأثيم تصوير كل الرموز الدينية، وتعاليها عن الحضور في هيئات بشرية، من إبداع رسامين وفنانين.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية