"إنّ فينا شبقاً للطيران في أشواقنا
والناس طير لا تطير"
(محمود درويش/ الهدهد)
الحديث عن الحرية حديث عن الإنسان نفسه؛ فهي جوهر تكوينه ووجوده، وبدونها لا يكون، فإذا كان أساس صفة الوجود هو الوجود الفاعل، فأساس الفاعلية في الوجود الإنساني؛ هي الحرية، وهنا تكون الحجة الدائرية التي أسوقها منطقية (حرية = جوهر الإنسان = وجود فاعل = الحرية).
وهي من الصفات التي "جبر عليها الإنسان"؛ فالله لم يخيّره في أن يكون حراً، أو لا؛ بل جعل اختيار الإنسان "للعبودية" جزءاً من حريته: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}، وهي التي على أثرها يكون الإنسان مسؤولاً عن إرادته بحريته فيها وربطها بالمسؤولية، يُكسِبها تعريفاً واعياً، وهي حال الإنسان غير الخاضع لتأثيرات الجهالة والأهواء، الذي يتصرف بوعي، استناداً إلى مفاهيم الحقيقة والعدل، محققاً بذلك بشكل كامل ما ينسجم مع طبيعته الخاصة، وماهيته، وبالوعي بها يكون الإنسان مسؤولاً عن إعادة اكتشاف وجوده الخاص، أو "كينونته"، ما يجعله يحمل أقصى درجات المسؤولية الأخلاقية.
الإنسان حرّ، لكنّه في حاجة إلى أن ينفض عنه غبار العبودية، ليكتشف أنّه حرّ
ولو ألقينا الضوء بعمق على تجربة النبي الرسالية؛ نجد أنّ محورها الأساسي كان أن "ينتقل" الإنسان العربي، من حالة العبودية إلى حالة الحرية، والانتقال من الوعي بالوجود الجزئي؛ جزيرة العرب، الحروب الطبقية الإبائية، إلى الوعي بالوجود الكلي وقيمه؛ فكان العربي يولد سيّداً، وآخر يولد عبداً، فيكون تصور العقل العربي للوجود، ضمن هذه الحدود، فكانت مهمة النبي وخطوته الأولى؛ أن يجعل المجتمع واعياً بحريته، فعلى حدّ تعبير أرسطو: إنّ الإنسان حرّ، لكنّه في حاجة إلى أن ينفض عنه غبار العبودية، ليكتشف أنّه حرّ، وهو عينه ما فعله النبي، وشرع في تربية المجتمع عليه، فكان يفرّق بين الحرية والإرادة، التي مكانها القلب، وبين الإكراه على الفعل، فإذا أجبرت أحداً على فعل، فهذا لا يعني أنّك غيّرت إرادته التي هي معنوية، فنرى النبي، صلى الله عليه وسلم، يقول لياسر بن عمّار كلمة بليغة: "فإن عادوا فعد"؛ أي إنّهم أجبروك أن تسبّ دين محمد بلسانك، وتعود عنه، ولكنّ "قلبك مؤمن"، كما هو كذلك عندما يسأله النبي، صلى الله عليه وسلم، بعدها: كيف أصبح قلبك يا ياسر؟ يقول: "عامر بالإيمان"، وهذا هو الشأن.
حتى يكون الإيمان هدفاً واضحاً للإنسان، عليه أولاً أن يزيل عن طريقه أشواك العبودية
حتى يكون الإيمان هدفاً واضحاً للإنسان، عليه أولاً أن يزيل عن طريقه أشواك العبودية، وهو ما فعله النبي، صلى الله عليه وسلم، مع بلال بن رباح؛ فإيمان بلال وحده درسٌ في الحرية، فهو لم يبدل آلهة قريش بإله واحد جديد، ليظلّ في عبوديته، إنما آمن بقيمة "الإله الذي يدعو إليه النبي"، وهي أنّك إنسان مساوٍ تماماً لسيدك الذي يستعبدك؛ فهو آمن بالناس سواسية، فإيمانه منطلقه الوعي بقيمته ووجوده، وهذا ما قدّمه له النبي، صلى الله عليه وسلم؛ فالانتقال من حال الشرك إلى الإيمان، هو واقع تحقق كانتقال من حال العبودية إلى مقام الحرية، والحرية مقام لديمومتها وخلودها والعبودية حال لتحولها .
فقيمة التساوي التي جاء بها النبي، صلى الله عليه وسلم، كانت جوهر العداء له؛ لأنّه ينذر بتحول اجتماعي قد يكون راديكالياً، رغم تدرجه، فمشكلتهم ليست في أنّهم مؤمنون بأصنامهم، ولهم موقف معرفي وعقدي تجاهها، إنّما موقف براغماتي يجعل الحفاظ على الأصنام حفاظاً على بنية المجتمع القائمة، أسياداً وعبيداً، وهذا يفسره وجود النبي أعواماً كثيرة، ولم يكسر صنماً واحداً.
الإكراه على الفضيلة لا يصنع المجتمع الفاضل، والإكراه على الإيمان لا يصنع المجتمع المؤمن
وهذا بدوره يفسّر أنّ النبي، صلى الله عليه وسلم، كان واعياً بأهمية تكسير الأصنام النفسية، التي جعلت الوجود في المجتمع العربي وجوداً "زائفاً"، باستعارة مصطلح هايدغر؛ فالوجود المسؤول هو الذي يخلو فيه الفرد من الإكراهات، وكذلك المجتمع، فبالحرية يعي الإنسان وجوده الأصيل، الذي هو فاعلية إرادته فيه، يقول محمد الغزالي: "إنّ الإكراه على الفضيلة لا يصنع المجتمع الفاضل، والإكراه على الإيمان لا يصنع المجتمع المؤمن"، وكلمته هذه خير مجال يمكن أن يفسّر قوله تعالى: {لَاْ إِكْرَاهَ فِيْ اَلْدِّيْنِ}، والإكراه نقيض الحرية، التي تبدأ من الاطمئنان العقلي والقلبي، ووفق هذه القيمة تسقط الكثير من الأحكام التي قرّرها الفقه الإسلامي، مثل: الردّة كحدّ إكراهي للرجوع إلى الإيمان، فالذي يعود إلى الدين لأنه يشعر بالتهديد، لا يكون مؤمناً حقّاً.
إنّ الإنسان، كما يرى كانط، لا بدّ من أن يكون حراً أولاً، ليخرج من القصور الذي هو فيها، ليفكر في العالم والوجود، بعقل منفتح وقلب لا تحدّه حدود، ولا تخيفه أو ترهبه أيديولوجيا.