من إلغاء الجَلد إلى إلغاء روحاني... النظام الإيراني في ورطة الانتخابات

من إلغاء الجَلد إلى إلغاء روحاني... النظام الإيراني في ورطة الانتخابات

من إلغاء الجَلد إلى إلغاء روحاني... النظام الإيراني في ورطة الانتخابات


29/01/2024

يوسف بدر

ما حدث في غزة وموقف الحكومات الغربية الداعم لإسرائيل وغياب العدالة الدولية كانا داعمين للكثير من وجهات النظر المحافظة أو المتشددة، بخاصة من جانب الأنظمة التي تحكمُ شعوبها بنظرةٍ شمولية دكتاتورية وأبوية، والتي دائماً ما تنظر إليهم على أنهم مصدر تهديد ونافذة للاختراق الأجنبي إذا ما عارضوا سياساتها!

هذه الصورة نجدها متحققة بوضوح في إيران اليوم، بخاصة أن نظامها منذ ثورة 1979 تشكل على أساس ضدية مع القوى المحيطة بها، لا سيما القوى الغربية التي كانت حليفة لنظام الشاه السابق الذي حلَّ نظام ولاية الفقيه محله في حكم إيران.

لكن القاعدة الشعبية، بمن فيها المتهمون بالعمل لمصلحة القوى المعادية، لها تأثيرها القوى على سلوك هذا النظام، وإلا فلماذا يستجدي مشاركتها في الانتخابات البرلمانية المقبلة ويستميلها لدفعها نحو صناديق الاقتراع؟ ذلك لأن هذه المشاركة تعني أن هذا النظام ما زال يتمتع بقابلية ومشروعية وسط الشارع الإيراني.

معضلة توقيت

يواجه النظام الإيراني معضلة توقيت في مسيرة حياته، تتعلق باختيار عناصره القيادية، إذ إن الإيرانيين على موعد مع إجراء الانتخابات البرلمانية مطلع آذار (مارس) المقبل، والتي تتزامن معها أيضاً انتخابات مجلس خبراء القيادة الذي مهمته اختيار المرشد الأعلى أو التجديد له.

بالنسبة إلى الانتخابات البرلمانية، فإن هيمنة التيار المحافظ على البرلمان وعلى الرئاسة أيضاً دفعت الإيرانيين، بخاصة من الشباب، إلى الابتعاد من الحياة السياسية وعدم الرهان على أي تغيير من دون إطاحة هذا النظام، لا سيما أن الإصلاحيين الذين هم باب الأمل للتغيير تمت تنحيتهم عن الحياة السياسية منذ انتخاباتي البرلمان والرئاسة السابقين، بما أضر بالمشاركة الانتخابية التي بلغت نسبتها أقل من 50% للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية الإسلامية.

وأمام انتخابات البرلمان المقبلة، يسعى النظام إلى استعادة زخم الشارع السياسي الذي فقده، وفي الوقت نفسه يخشى من تأثير عودة الإصلاحيين على محادثاته الجارية مع الغرب والقوى الإقليمية، وكذلك على التحولات الاجتماعية، بخاصة بعد احتجاجات الحجاب التي هزت المجتمع الإيراني، ولذلك فضل النظام إطاحة جميع الإصلاحيين ومعهم الشخصيات المعتدلة مثل الرئيس السابق حسن روحاني ورئيس البرلمان السابق علي لاريجاني والسياسي ناطق نوري، وتعليبهم على غرار ما فعله بالرئيس الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي.

وبالنسبة إلى انتخابات مجلس الخبراء، فإن مهمة هذا المجلس تضعه أمام عين الملاحظة الآن، إذ إن مهمته تعيين المرشد الأعلى وعزله طوال دورته التي مدتها ثماني سنوات، بينما عمر المرشد الحالي علي خامنئي خمسة وثمانون عاماً، تجعل النظام يعمل على هندسة تركيبة هذا المجلس بالصورة التي تضمن له انتخاب مرشد جديد يمضي على خطى مصالح النظام الحالي ورجاله من السياسيين المحافظين ورجال الدين والعسكريين. 

الأقلية الحاكمة

إبعاد حسن روحاني من انتخاباتي البرلمان ومجلس الخبراء، وهما جهازان قادران على تعديل النظام في إيران، مؤشر إلى أن النظام الحالي يستشعر الخطر من أي محاولة للتغيير، ولذلك يقوم بتصفية كل الوجوه المطالبة بذلك، فليس من المعقول أن يقوم مجلس صيانة الدستور (يعادل المحكمة الدستورية) بحرمان روحاني من صلاحية الترشح بينما كان رئيساً للبلاد بقوة أصوات بلغت 25 مليون صوت! حتى أن النائب المحافظ في البرلمان وعضو جبهة الثبات (پایداری)، كريمي قدوسي، سخر على حسابه بمنصة إكس، من قرار إبعاد روحاني بالإشارة إلى حادثة "سقيفة بني ساعدة" التي تم فيها إبعاد الإمام علي من الحكم، وكأن النظام الحاكم الشيعي يكرر ما يتهم به خصوم علي!

على ذلك، تصدق التهمة التي وجهها روحاني للنظام بأن "الأقلية الحاكمة" تسعى إلى تقليل الأسماء المشاركة في الترشح للانتخابات، حتى تتمكن من تحديد مصير الشعب وحدها.

ويبدو أن النظام الحاكم لديه قلق حقيقي من منح المعتدلين أي مساحة قوة قد تفيدهم إذا ما رحل المرشد خامنئي، ولذلك عندما ترشح الرئيس المحافظ الحالي إبراهيم رئيسي لخوض انتخابات مجلس الخبراء عن دائرة محافظة خراسان الجنوبية، تاركاً العاصمة للرئيس السابق روحاني، لم يكن الأمر هروباً من المنافسة، بل كان هندسةً  لإطاحة روحاني المعتدل، الذي لطالما طالب بالاستفتاء لحل قضايا إيران الخلافية في الداخل والخارج، وهو أمر دستوري، ولطالما طالب أيضاً بالترتيب المحتمل للتعامل مع الوضع إذا ما رحل خامنئي، وهو ما أزعج التيار المحافظ الذي يريد أن تكون له اليد العليا في رسم الخريطة السياسية للبلاد، من دون أن يعطي الحق لرئيس سابق مثل روحاني في أن يشاركه الرأي في وضع سياسات البلاد، بخاصة أن كارهي الإصلاحيين والمعتدلين من المتشددين يطلقون على روحاني وأعضاء حكومته السابقة اسم "عصابة نيويورك"، وذلك لسعيهم الدائم لفتح اتصالات مع العالم الغربي وحل المشكلات معه، لأنهم لخصوا أزمات إيران في العقوبات الغربية.

وفي المرحلة الحالية لا يخجل النظام من اتهامه بالهندسة السياسية؛ فالمرشح الذي يعتزم تغيير دائرته الانتخابية بعد حصوله على صلاحية الترشح، عليه مراجعة مجلس صيانة الدستور مرة أخرى! ما يعني أن المرشحين يحصلون على صلاحية الترشح بناءً على مدى تأثيرهم في الدائرة المرشحين عليها، وفق هندسة النظام الحاكم للعملية الانتخابية!

الحجاب والجَلد!

لكن أيضاً عندما نقول إن النظام الإيراني يقوم بهندسة الوضع السياسي، فإن هذا يضعنا أمام نظام لديه أدواته وإن أخطأ في استخدامها، فالانتخابات القادمة هي الأولى بعد موجة احتجاجات واسعة وممتدة اشتعلت بعد وفاة الفتاة مهسا أميني إثر اعتقالها على يد شرطة الحجاب والعفاف، وهو ما أثار غضب الشباب الإيراني الطامح للتغيير الاجتماعي والسياسي. 

لذلك يدرك النظام أن المشاركة الكثيفة في الانتخابات القادمة لها أهمية كبيرة في تأكيد شرعيته الشعبية، لكنه لن يستطيع إقناع هؤلاء الشباب بالمشاركة ما دام ليس لهم مُرشحون يمثلون طموحاتهم المستقبلية، ولكنه يستطيع أن يُجمد كل ما يمكن أن يثير غضبهم حتى الانتهاء من موعد الانتخابات المقبلة، إذ يدرك النظام أن معظم المشاركين في مَسيرات الجمعة المؤيدة له ولسياسته أو تلك المسيرات التي ترفع شعار "الموت لأميركا وإسرائيل" هم من جيل الآباء أو من أبناء الحوزة الدينية، وأن الشباب الإيراني قد غادر ساحة التظاهرات الداعمة منذ أفول نجم الإصلاحيين برحيل الرئيس حسن روحاني. 

لذلك نجد أن قانون الحجاب الجديد دخل ثلاجة مجلس صيانة الدستور بعدما وافق البرلمان في 20 أيلول (سبتمبر) على تنفيذه التجريبي لمدة 3 سنوات، حتى يطمئن النظام إلى أن موعد تنفيذه لن يؤثر على الاستقرار الاجتماعي، بخاصة أن هذا القانون  طور من أدوات العقاب بما يقلل فرص الاحتكاك بين شرطة الأخلاق والمخالفين. لكن أيضاً تم تطوير بنوده بما يمد سلطته إلى داخل الأسواق والمحال وصالونات السيدات والفضاء الإلكتروني تحت ذريعة محاربة الأنشطة المعادية.

كذلك، بينما تغلق الشرطة المقاهي والمحال وتطارد النساء في المطارات ومحطات المترو، ويتم حرمانهن من الحصول على الخدمات الإدارية والحكومية بحجة عدم التزامهن الحجاب، يأتي المتحدث باسم مجلس صيانة الدستور ويعلن أن غير المحجبات يمكنهن الذهاب إلى صناديق الاقتراع واستخدام حقهن الدستوري في اختيار ممثليهن من دون أي مانع!

بل إن عقوبة الجَلد التي هي من الشريعة الإسلامية، ولكن يتم توظيفها لأهداف سياسية، إذ يتم جَلد المعارضين السياسيين والنساء المعارضات للحجاب باسم الحكم التعزيري (التأديبي) لحماية المجتمع الإسلامي، أثارت غضب الشارع الإيراني إثارةً واسعة، بخاصة بعد توقيع تلك العقوبة على الناشطة الكردية رؤيا حشمتي بتهمة الجهر بعدم الالتزام بالحجاب. وهو ما أثار الجدل الواسع بين رجال الدين، ودار الحديث بينهم على ضرورة التفرقة بين نص الشريعة وعلى مَن تنطبق تلك العقوبة ومدى تأثيرها بالسلب أو الإيجاب، بخاصة أن الأجيال الجديدة باتت تنفر من الدين باسم معارضة السلطة الحاكمة وأحكامها التي تجدها ليست في مصلحة سلامة المجتمع وحفظ كرامة الإنسان بقدر ما هي في مصلحة حماية السلطة نفسها!

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة بالغضب، نجد المتحدث باسم السلطة القضائية يلطف الوضع بقوله إن عقوبة الجَلد في طريقها إلى الرحيل ما دامت الأحكام التعزيرية قد فقدت مفعولها، ومن ثم يتم اللجوء إلى عقوبات بديلة.

والواقع أن النظام الإيراني لا يشغله إلا تجنب إثارة الشارع الإيراني حتى الانتهاء من الانتخابات المقبلة. أما بالنسبة إلى أنصاره والطبقات الدنيا والحوزات الدينية، فهو كفيل بتخديرهم باسم التعاليم الدينية والمؤامرة الخارجية ومخططات الأعداء، إذ تركز منابره الإعلامية والدينية على أهمية المشاركة الانتخابية من أجل دعم دولة المهدي المنتظر التي قامت على يد ولاية الفقيه!

عن "النهار" العربي




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية