
ما يزال تنظيم داعش الإرهابي يثير عبر عملياته المتصاعدة مخاوف عديدة، حيث إنّ نشاطاته المتزايدة ميدانياً في عدة مناطق بالعالم، منها سوريا والعراق، كما في غرب أفريقيا، وحتى في أوروبا، تؤشر إلى اعتماده تكتيكات "الذئاب المنفردة"، والعمل ضمن نطاق اللّا مركزية منذ هزيمته في الباغوز وانحسار التنظيم، وسقوط دولة الخلافة المزعومة؛ الأمر الذي خلق حالة كمون أسفرت عن تحوله من "دولة" معلنة كما في السابق، وامتدت في مساحات شاسعة بين سوريا والعراق، إلى تنظيم متفلت وخلايا نائمة، تبعث بتمردها المسلح تعقيدات جمة لمواجهتها الأمنية والعسكرية.
ويمكن القول إنّ التنظيم الإرهابي يعتمد إلى جانب ذلك على الانتشار الرقمي من خلال الاستعانة المتزايدة بمنصات التواصل الاجتماعي، والذكاء الاصطناعي، بما يعقد من وسائل المكافحة وضبط هذا الانتشار والتمدد. وقد نفذ التنظيم هجمات إرهابية في عدة مناطق بالساحل الأفريقي وفي أفغانستان عبر فروعه المختلفة، منها "داعش خراسان" و"ولاية الساحل".
الاستفادة من الفراغات الأمنية
وعليه، فإنّ التنظيم الإرهابي في دول مثل نيجيريا ومالي، وأجزاء من آسيا الوسطى، يسعى إلى إعادة التموضع، بينما يستفيد من الفراغات الأمنية، ويواصل هجماته التي تسمح له بتقوية إمكاناته العسكرية، واستعادة قدراته على المستوى التنظيمي والحركي، وكسب دعاية جديدة لتجنيد الأفراد، والحصول على موارد. وبحسب "مؤشر الإرهاب العالمي" في التقرير الصادر العام الحالي عن (معهد الاقتصاد والسلام)، فقد تم تصنيف منطقة الساحل الأفريقي باعتبارها من أخطر مناطق العالم، وأكثرها تضرراً من الإرهاب، حيث إنّ أكثر من نصف ضحايا الإرهاب عالمياً خلال العام الماضي قتلوا في بلدان الساحل.
وذكر التقرير أنّ هذه المنطقة تُعدّ "بؤرة الإرهاب العالمي"، وذلك للعام الثاني على التوالي، حيث قضى نحو (3885) شخصاً في هجمات مسلحة وإرهابية خلال عام 2024 الماضي بمناطق الساحل الأفريقي. وأبرز الدول التي تعرضت لأكثر الهجمات فداحة مالي والنيجر وبوركينا فاسو. وفي حين بلغ عدد الضحايا جراء الهجمات الإرهابية حول العالم خلال العام الماضي نحو (7555) شخصاً، فإنّ نصيب دول الساحل من ضحايا العمليات المماثلة يصل إلى 51%.
ويمكن القول إنّ هذه المنطقة متخمة بالتنظيمات الإرهابية؛ حيث إنّ التنافس المحتدم داخل الحالة الجهادية يفاقم من الأوضاع الأمنية، كما يضاعف من النتائج السلبية التي يدفع ثمنها المدنيون. وتتمركز "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" التابعة لتنظيم القاعدة في مالي، غير أنّها تفرض سيطرتها في النيجر وبوركينا فاسو، وقد لوحظ انتشارها وتوسعها في غرب أفريقيا مؤخراً. وفي المقابل يبرز تنظيم داعش في الصحراء الكبرى، بالمنطقة الحدودية المتاخمة للنيجر ومالي وبوركينا فاسو، ويصطدم في إطار الصراع والتنافس على الموارد والثروات، والتمدد الجغرافي والهيمنة الميدانية مع القاعدة، لهذا يعمد تنظيم داعش إلى تجسير صلاته بـ "تنظيم داعش في غرب أفريقيا"، الذي أعلن انشقاقه عن "بوكو حرام".
شبكات عابرة للصحراء
كشف تقرير مؤشر الإرهاب العالمي عن ارتباط تنظيمي القاعدة وداعش الإرهابيين بالشبكات التي تعمل في التهريب في نطاق الصحراء الكبرى؛ ممّا يزيد من تأثير التنظيمَين، ودق ناقوس الخطر من تنامي الروابط البراغماتية بينهما، والانتقال إلى مناطق جديدة. ورجح التقرير أنّه حتى مع التنافس بين القاعدة وداعش، إلا أنّ ذلك لا ينفي وجود تعاون مع "فاعلين محليين في منطقة الساحل والصحراء، بغية توسيع عملياتهما في المنطقة، ودعم الهجمات الموجهة ضد الجيوش النظامية، خصوصاً في النيجر ومالي". وقال: إنّ "الوجود القوي لهذه الشبكات على طول خطوط التهريب عبر الصحراء سيعزز الروابط بين الجماعات المتطرفة بمنطقة الساحل والشبكات الداعمة والميسِّرة في شمال أفريقيا".
وذكر التقرير أنّ تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب" ما زال نشطاً في جنوب غربي ليبيا والجزائر "حيث يعمل بشكل رئيسي مركزاً لوجيستياً وممر عبور على طول طرق التهريب العابرة للصحراء". وتابع: "التقارير الأممية أكدت أنّ تنظيم (القاعدة) ما زال يستخدم جنوب غربي ليبيا مركزاً لوجيستياً لدعم فروعه في غرب أفريقيا، كما تشير التقارير إلى وجود هذا التنظيم على طول طرق التهريب بين الجزائر وليبيا والنيجر، ويعمل مع مهربي الطوارق في تهريب المخدرات والأسلحة والمهاجرين".
وفي سياق موازٍ، قال التقرير: إنّ تنظيم داعش الإرهابي "أظهر نية واضحة لاستخدام شبكاته العابرة للصحراء لدعم خلايا الهجوم في شمال أفريقيا وأوروبا، ودعم حركة المقاتلين الأجانب".
وفي حديثه لـ (حفريات)، يوضح الباحث المختص في قضايا الإسلام السياسي الدكتور عبد السلام القصاص أنّ انبعاثات داعش، لا يمكن أن تكون عفوية أو حوادث مؤقتة، إنّما تكشف عن أنماط جديدة تحتاج للمراجعة بدقة وحذر شديدين، لافتاً إلى أنّ الانتشار العملياتي في الغرب كما في أفريقيا وغيرها من مناطق بالشرق الأوسط، منها سوريا، يكشف عن وجود شبكة لا مركزية قادرة على التحريك والتهديد، وبالتالي، ثمة "ضرورة للبحث وراء العوامل المختلفة التي سمحت للتنظيم بإعادة التموضع والانتشار وإبجاد بدائل للبقاء"، وقال: إنّ الهجوم مطلع العام الحالي في "نيو أورلينز" أثار مخاوف من عودة نشاط التنظيم في الغرب.
وبحسب القصاص، فإنّ نشاط التنظيم الإرهابي في (22) دولة، وفق مؤشر الإرهاب العالمي قبل عام، لا يعني قوة تنظيمية أو وفرة في الموارد أو قدرة على التجنيد والتخطيط والتنفيذ، إنّما هذا كله بالإضافة إلى إمكانية فائفة لتعزيز النفوذ في أفريقيا وآسيا. وألمح إلى لا مركزية القيادة والتنظيم، واستغلال المناطق الرخوة أمنياً، مع الفوضى السياسية، والإلحاح على فكرة الاستقطاب، كما حدث مع حرب غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي والهجمات التي نفذتها حماس.
وألمح القصاص في حديثه لـ (حفريات) إلى أنّ داعش لا يتوانى عن اعتماده "العملات الرقمية لتمويل عملياته، والتي توفر له إمكانية عدم المراقبة والتتبع والتخفي مقارنة بالأنظمة المالية التقليدية. ويرتبط ذلك بارتكازاته القصوى على المنصات الرقمية لنشر إيديولوجيته المتشددة، واللجوء إلى تقنيات متطورة وحديثه للوصول إلى جمهور أوسع من المستهدفين، بينما يجد في التسويق الرقمي وسائل ووسائط أكثر مرونة وفعالية في تجنيد الفئات التي يحتمل الوصول إليها".
داعش يضرب في العراق
الأربعاء الماضي كشف بيان عسكري عراقي عن مقتل (2) من عناصر داعش، بينهما انتحاري بحزام ناسف، وجرح آخرين، في كمين للقوات العراقية في قاطع قيادة عمليات شرقي محافظة صلاح الدين. وقال بيان لقيادة العمليات المشتركة العراقية: إنّ قوات من جهاز الاستخبارات العسكرية ضمن قاطع قيادة عمليات شرقي صلاح الدين تمكنت بكمين محكم في منطقة "بالكانة" في قاطع "طوز خرماتو" من الإطاحة بمجموعة مكونة من (4) إرهابيين من عناصر عصابات داعش وقتل (2) منهم، أحدهما انتحاري بحزام ناسف، وجرح الآخرين.
وتابع: "العملية ما زالت مستمرة بعملية التفتيش بإشراف القيادات الأمنية وإسناد من القطعات الأمنية بطائرات مسيّرة من قبل مديرية الاستخبارات العسكرية". مشدداً على أنّ "القوات الأمنية في جميع قواطع المسؤولية مستمرة بعملها الأمني والاستخباري المتميز، وقد حققت إنجازات مهمة في قتل ومحاصرة ما تبقى من فلول عصابات داعش الإرهابية المنهزمة التي تسعى إلى إثبات وجودها بأيّ عملية بائسة أو تواجد خاصة خلال الأيام الأخيرة لشهر رمضان المبارك".
وطالبت قيادة العمليات المشتركة العراقية بضرورة توخي" الحيطة والحذر والجاهزية التامة والتخطيط الصحيح للقوات العراقية، وأن تكون بالمرصاد لعناصر داعش الإرهابية المنهزمة، خاصة أنّ قواتنا الأمنية لديها الخبرة الكافية والعزيمة والاندفاع".
بالتالي، لا يكون مفاجئاً أن يقول تقرير لخبراء الأمم المتحدة صدر مؤخراً: إنّ نار الجهاد والإرهاب ما تزال مُشتعلة في أوروبا، وإنّ الشعور بالقلق يتصاعد في فرنسا بشكل خاص، وقد كشف المدعي العام الفرنسي لمكافحة الإرهاب أوليفييه كريستين مؤخراً أنّه من بين الهجمات الإرهابية الـ (9) التي تمّ إحباطها عام 2024 في بلاده، كانت (5) منها "تعتبر مرتبطة بشكل مباشر بتنظيم داعش الإرهابي في خراسان".
ارتباط عضوي بين أذرع التنظيم
وأوضح التقرير الأممي أنّ التحقيقات الاستخباراتية الدولية أكدت الترابط المُتبادل بين أنشطة تنظيم داعش الإرهابي بين أوروبا، وشمال أفريقيا وصولاً إلى منطقة الساحل. وكشف عدد من خبراء الأمم المتحدة المعنيين بمُكافحة الإرهاب في تقريرهم الأخير، الذي يشمل النصف الثاني من عام 2024، عن أنشطة تنظيمي داعش والقاعدة في العالم، وخلصوا إلى أنّ تنظيم داعش في خراسان ما يزال يشكل التهديد الرئيسي في أوروبا، وأنّ تجدد الفكر المتطرف تحت تأثير التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي هو اتجاه عالمي.
ووفقاً لما يراه الكاتب والمحلل السياسي في يومية (لوفيغارو) الفرنسية جان تشيتشيزولا، فإنّه بالنسبة إلى الدول الأوروبية، يمثل تنظيم داعش الإرهابي في خراسان، الفرع الأفغاني للتنظيم، "التهديد الإرهابي الخارجي الأكبر"، حيث إنّ "الوتيرة المُتزايدة للهجمات الفاشلة" في العام الماضي، أظهرت تصميم التنظيم على "تنفيذ هجمات مميتة للغاية على الأراضي الأوروبية، وخاصة ضدّ أهداف غير محمية وحشود كبيرة".
وبالنسبة إلى أوروبا، فإنّ هذا التهديد الذي يشكله تنظيم داعش الإرهابي "نشأ تحت تأثير جهاز دعاية قوي على شبكة (الإنترنت)، وتم تسهيله من خلال شبكات لوجستية بعيدة تستخدم اللغة الروسية المشتركة بين دول آسيا الوسطى، ومنطقة شمال القوقاز في الاتحاد الروسي". وقال: إنّ "الاعتقالات الأخيرة أظهرت بوضوح وجود العديد من المتعاطفين مع شتات المُهاجرين من آسيا الوسطى، وشمال القوقاز في أوروبا ممّن يحملون تصاريح إقامة قانونية، والذين سهلوا تثبيت عملاء في منطقة "شنغن" وقدموا الدعم المالي واللوجستي لتنفيذ أعمال انتهازية".
ويحدد الخبراء الأمميون أنّ "تجديد" الإرهابيين ظاهرة عالمية، وتشير المنظمة الدولية إلى أنّ "العديد من الدول الأعضاء لاحظت أنّ متوسط أعمار الأفراد المُتطرّفين يبدو أنّه يتناقص". وتتعزز هذه الملاحظة بشكل خاص في جنوب شرق آسيا، مع "زيادة التطرف الذاتي عبر الإنترنت بين الشباب"، وبين الأفراد "الأصغر سناً بشكل مُتزايد". كما نفذت قوات الأمن من عدة دول أوروبية مؤخراً، وفق التقرير الأمني الأممي، عمليات منسقة أسفرت عن تفكيك (4) خلايا إرهابية تتألف من أكثر من (25) قاصراً كانوا يتواصلون عبر الإنترنت في المجموعات الافتراضية نفسها التي كانت تنهي الاستعدادات لشن هجمات مُتزامنة في عدة مدن أوروبية.