مقابر الأرقام.. هل قدر الفلسطينيين السجن حتى بعد الموت؟

فلسطين

مقابر الأرقام.. هل قدر الفلسطينيين السجن حتى بعد الموت؟


21/04/2019

مقابر سرية أقامتها دولة الاحتلال الإسرائيلي للانتقام من الشهداء وذويهم، من خلال احتجاز جثامين أبنائهم الذين قضوا داخل المعتقلات الإسرائيلية، أو أثناء تنفيذهم للعمليات الفدائية في مدافن تعرف بـ "مقابر الأرقام"، وترفض إسرائيل تسليم الضحايا لذويهم إلا بعد انتهاء مدة محكوميتهم بداخل هذه القبور التي أشبه ما تكون بالمقابر الجماعية، ليضاعف ذلك من آلام عائلاتهم والاستهتار بمشاعرهم، بعد رفض السلطات الإسرائيلية منحهم شهادات وفاة لأبنائهم، أو إبلاغهم عن مكان وظروف احتجازهم، ليبقى الشهيد لا حرمة له، ولا قبر يحمله، ولا يعترف به بنظر الاحتلال الإسرائيلي.

اقرأ أيضاً: الاحتلال ينزع فرحة الفصح من مسيحيي غزة

مقابر الأرقام عبارة عن مدافن رملية محاطة بالحجارة دون شواهد، ويتم وضع جثمان الشهيد في كيس بلاستيكي بداخل هذه الحفر التي لا يتجاوز ارتفاعها 50 سنتيمتراً، وتثبت أعلى القبر لوحة معدنية تحمل رقم الضحية، ويحتفظ بها بداخل الجهات الأمنية الإسرائيلية، وتتواجد هذه المقابر في مناطق عسكرية مغلقة، ويمنع التواجد بقربها أو التقاط أيّ صور لها، وتتركز في أربع مقابر، وهي: مقبرة جسر بنات يعقوب، ومقبرة جسر دامية، ومقبرة فديم، ومقبرة وادي الحمام، وتقع قرب الحدود اللبنانية والسورية، وعلى مشارف غور الأردن.

مدافن رملية محاطة بالحجارة دون شواهد

أم مجدي تنتظر بألم وحسرة

خديجة الثوابتة (62 عاماً)؛ من مخيم جنين شمال الضفة الغربية، والتي تملأ التجاعيد وجهها النحيل، تتحدث بحسرة وألم لـ "حفريات"، وتقول إنّها "تنتظر بأمل كبير رؤية رفات ابنها مجدي الثوابتة، الذي تحتفظ بآخر صورة له في منزلها ليكون حاضراً معها، بعد أكثر من 17 عاماً على استشهاده خلال الاجتياح الإسرائيلي للمخيم، عام 2002، حين قامت قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي باقتحامه، وقتل واعتقال واختطاف العشرات من المواطنين، وشحن مئات الجثث بداخل شاحنات مبردة، إلى مقابر قام جيش الاحتلال الإسرائيلي بإعدادها لهم في إحدى مقابر الأرقام".

تم احتجاز حوالي 400 شهيداً، فيما تم تحرير جثامين 131 منهم، وما يزال 253 شهيداً محتجزاً في مقابر الأرقام

وتجلس الثوابتة بجوار صورة ابنها الذي استشهد خلال الاشتباكات المسلحة مع الجيش الإسرائيلي داخل المخيم، وتنفض ذاكرتها قليلاً، وتقول: "في ذلك اليوم؛ دأبت قوات الاحتلال على اقتحام المخيم ومحاصرة جميع مداخله، وقطع الكهرباء عن منازله، وكبقية شباب المخيم خرج ولدي مجدي من داخل المنزل للدفاع عن سكان المخيم ضدّ الاعتداءات الإسرائيلية، وبعد خروج القوات الإسرائيلية، وتكشف الجريمة التي ارتكبها جنودها، ومشاهدة عشرات الجثث التي ملأت الطرقات والمنازل، وبعد البحث داخل مستشفيات جنين، اختفى نجلي، ولم أعلم حينها إن كان على قيد الحياة، أو استشهد، أو تمّ أسره".

وتضيف: "الأنباء تضاربت حول مصير نجلي الوحيد، بحسب المعلومات التي وصلت إلينا، فبعد انتهاء مجزرة المخيم بعام واحد، تمت إفادتنا من قبل مؤسسة حقوقية بأنّه تم أسره بداخل المعركة، وهو متواجد في سجن مجدو ويقضي عقوبة بالسجن المؤبد، وبعد التواصل عدة مرات مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فقد تم إبلاغنا بأنه قد استشهد، وهو مدفون بإحدى مقابر الأرقام، وترفض إسرائيل تسليمه لنا دون تقديم أي توضيحات عنه".

وبعد توكيل محامي للعائلة للمطالبة بتسليم جثمانه، وبعد البحث والتحري عن مكان تواجده، فقد تم إعلامهم بأنه مدفون في مقبرة "دامية" في غور الأردن، وترفض إسرائيل تسليم جثته، ويربط الاحتلال القضية بالإفراج عن الجنود الأسرى في قطاع غزة، حتى يتم النظر في أمره وتسليم جثته، بحسب ما أفاد محامي العائلة.

اقرأ أيضاً: الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال يواصلون إضرابهم.. هذه مطالبهم

وتأمل الثوابتة أن "يأتي يوم ما، وهي على قيد الحياة، لاحتضان جثمان ابنها، لتقوم عائلتها بدفنه وتواريه الثرى بالطريقة الإسلامية التي تليق به، حيث تعيش العائلة صدمة كبيرة لعدم رؤية ابنها وتسلم جثته، حتى ينتابها الشك كثيراً في أنّ ابنها ما يزال على قيد الحياة، ولم يمت، في ظل تعنت سلطات الاحتلال في الإفصاح رسمياً عن مكانه أو ظروف احتجازه".

سرقة أعضاء الشهداء
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى والمحررين، عبد الناصر فروانة، يقول: "منذ عام 1967، دأبت قوات الاحتلال الإسرائيلي على معاقبة الشهداء الفلسطينيين بعد موتهم، من خلال حجز جثامينهم في ثلاجات الموتى ومقابر الأرقام، في مخالفة واضحة للمادة (17) من اتفاقية جنيف الأولى، التي نصت على إلزام الدول المتعاقدة باحترام جثامين ضحايا الحرب من الإقليم المحتل، وتمكين ذويهم من دفنهم وفق تقاليدهم الدينية والوطنية".

ويكمل فروانة حديثه لـ "حفريات" بأنّ "المئات من الشهداء والمفقودين الفلسطينيين جرى دفنهم في مقابر الأرقام، في ظروف احتجاز لا تحترم كرامة الإنسان التي كفلتها له سائر الأعراف والقوانين الدولية؛ حيث اختلطت عظام الشهداء مع بعضها البعض، وجرى انجراف عدد منها بفعل الأمطار والعوامل الطبيعية، إضافة إلى قيام السلطات الإسرائيلية بسرقة أعضاء الشهداء قبل القيام بدفنهم بهذه المقابر، وذلك بهدف الضغط على ذويهم ومعاقبتهم، كما عاقبت من قبل جثث أبنائهم الشهداء".

تقارير أجنبية: المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف فتظهر الجثامين وتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة

ودعا فروانة إلى ضرورة "أن تكون قضية استعادة جثامين شهداء مقابر الأرقام قضية وطنية، وأن يتم الاهتمام بها على المستوى السياسي للضغط دولياً على دولة الاحتلال ليتم تسليم كافة الشهداء الفلسطينيين دون شروط إلى عائلاتهم، إكراماً لهم وتقديراً لنضالاتهم الوطنية".

ووفق الحملة الوطنية لاسترداد الجثامين، التي تأسست عام 2008؛ فإن ما تم توثيقه استناداً إلى بلاغات عائلات الشهداء والفصائل الفلسطينية التي كانوا ينتمون لها، تم احتجاز حوالي 400 شهيد، فيما تم تحرير جثامين 131 منهم، وما يزال 253 شهيداً محتجزاً في مقابر الأرقام.

وتؤكد الحملة أنّ عدد الشهداء الموجودين في مقابر الأرقام يفوق هذا العدد الموثق استناداً إلى المعلومات المتداولة حول المقابر وأعداد القبور داخلها، وبحسب الحملة؛ فإنّ هناك 68 مفقوداً منذ بداية الاحتلال حتى اليوم، ولا يعرف مصيرهم، وينكر الاحتلال أيّة معلومات حولهم.

السلطات الصهيونية تقوم باحتجاز جثث الشهداء وترفض تسليمها لذويهم

رفض تسليم جثامين الشهداء

وأصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قراراً، عام 2013، بتسلم جثامين 36 شهيداً، لكن تم تسليم جثامين 27 شهيداً؛ منهم في الأشهر الأولى من العام 2014، لكن التسليم توقف بزعم الظروف السياسية.

وفي تموز (يوليو) 2015؛ أعلنت وزارة جيش الاحتلال أمام المحكمة العليا، أنها ستتوقف عن احتجاز الجثامين، وستشرع بتأسيس بنك للحمض النووي تمهيداً لتحرير جميع الجثامين المحتجزة، لكن حتى هذه اللحظة لم تف بالتزامها.

اقرأ أيضاً: استشهاد عمر أبو ليلى.. والاحتلال يصعّد في الضفة الغربية

وعاد الاحتلال الإسرائيلي إلى احتجاز جثامين الشهداء كآلية عقاب، بزعم استهداف جنوده ومستوطنيه بقرار من المجلس الوزاري الإسرائيلي المُصغر للشؤون السياسية والأمنية "الكابينت"، بتاريخ 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2015.

ونقلت تقارير أجنبية عن شهود عيان؛ أنّ المقابر عبارة عن مدافن رملية قليلة العمق، ما يعرضها للانجراف، فتظهر الجثامين منها، لتصبح عرضة لنهش الكلاب الضالة والوحوش الضارية، وفي مقابلة مسجلة بثّها التلفزيون الإسرائيلي مع البروفيسور الإسرائيلي، يهودا هس، الرئيس السابق لمعهد التشريح "أبو كبير"، خلال عام 2014، قال: إنّ المقابر" تقع جميعها في مناطق عسكرية مغلقة، ويتمّ دفن الشهداء في قبور لا يزيد عمق القبر فيها عن 50 سم، القبور فيها متلاصقة، وقد انكشفت هذه القبور بفعل العوامل الطبيعية من مياه الأمطار والرياح وانجرافات التربة، ما أدى إلى اختلاط عظام الشهداء بعضها ببعض".

اقرأ أيضاً: الاحتلال ينتهك حقوق الأسيرات الفلسطينيات.. هذه أوضاعهن

كشف الاحتلال عن 4 مقابر أرقام، فضلاً عن احتجازه لعدد آخر من الجثث في ثلاجات الموتى

اقرأ أيضاً: أسير فلسطيني على حافة الموت في سجون الاحتلال الصهيوني

مهاجمة الحيوانات الضالة للجثث

ويفند عيسى قراقع، وزير شؤون الأسرى والمحررين الأسبق، الرواية الإسرائيلية في مقال له؛  إذ يقول: "أحد شهود العيان وصف كيف تأتي الحيوانات المفترسة وتغرس أنيابها في أجساد الموتى بعد أن تنبش القبور، وكيف تنقض عليها الطيور الجارحة، مشاهد تقشعر لها الأبدان، والجثث الأسيرة تسحبها الحيوانات أو سيول الأمطار، ويسحبها النسيان السياسي وغياب هذا الملف الإنساني الكبير عن أجندة المفاوضات وأروقة الأمم المتحدة ولجان حقوق الإنسان، والنمس كان أشرس الحيوانات التي تدخل إلى مقابر الأرقام، ويقوم بالحفر ثم يستخرج الجثة يمزقها ويأكلها وينعفها في المكان".

كشف الصحفي السويدي دونالد بوستروم في تقرير له نشر عام 2009، عن أربع مقابر أرقام أقامها الاحتلال الإسرائيلي

وكشف الصحفي السويدي، دونالد بوستروم، في تقرير له نشر عام 2009، عن أربع مقابر أرقام، فضلاً عن احتجاز الاحتلال عدداً آخر من الجثث في ثلاجات الموتى. وبحسب المصادر المختلفة؛ فإنّ المقبرة الأولى والأقدم أقيمت في نهاية السبعينيات، قرب جسر آدم في غور الأردن، كما كشفت مصادر صحفية إسرائيلية، وهي محاطة بجدار، فيه بوابة حديدية معلق فوقها لافتة كبيرة كتب عليها بالعبرية "مقبرة لضحايا العدو"، ويوجد فيها أكثر من مئة قبر، وتحمل هذه القبور أرقاماً من (5003 – 5107)، ولا يعرف إن كانت هذه الأرقام تسلسلية لقبور في مقابر أخرى، أم كما تدّعي "إسرائيل"؛ بأنّها مجرد إشارات ورموز إدارية لا تعكس العدد الحقيقي للجثث المحتجزة في مقابر أخرى.

والمقبرة الثانية: تعود للعام 2000، بحسب مصدر صحفي إسرائيلي أيضاً، وتقع بجوار معسكر عميعاد العسكري، شمال فلسطين المحتلة، وجسر "بنات يعقوب"، عند ملتقى الحدود السورية اللبنانية، وتفيد بعض المصادر بوجود ما يقرب من 500 قبر فيها لشهداء فلسطينيين ولبنانيين، غالبيتهم ممن سقطوا في حرب 1982، وما بعد ذلك.
والمقبرة الثالثة" ريفيديم"؛ وتقع في غور الأردن، أما المقبرة الرابعة، مقبرة "شحيطة"، وتقع في قرية وادي الحمام شمال مدينة طبريا، الواقعة بين جبل أربيل وبحيرة طبريا، غالبية الجثامين فيها لشهداء معارك منطقة الأغوار، بين عامي 1965 و1975، وفي الجهة الشمالية من هذه المقبرة ينتشر نحو 30 ضريحاً في صفين طويلين، فيما ينتشر في وسطها نحو 20 ضريحاً.

اقرأ أيضاً: سكان الخان الأحمر يرفضون مهلة الاحتلال

وينص القانون الدولي الإنساني على أنّ أطراف النزاع تقع تحت التزام يملي عليها البحث عن ضحايا الحرب، وجمعهم، وتحديد هوياتهم، وتنصّ المادة (34) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقية جنيف، عام 1949، على تحريم انتهاك رفات الأشخاص الذين توفوا بسبب الاحتلال، أو في أثناء الاعتقال الناجم عن الاحتلال أو الأعمال العدائية، وكذلك رفات الأشخاص الذين توفوا في بلد ليسوا هم رعاياه، كما يجب الحفاظ على هؤلاء الأشخاص جميعاً، ويجب على الأطراف، التي توجد في أراضيها مواقع تضمّ رفات أشخاص توفوا بسبب اشتباكات أثناء الاحتلال أو الاعتقال، أن تعقد حالما تسمح الظروف والعلاقات بين الأطراف المتخاصمة، اتفاقيات بغية تسهيل عودة رفات الموتى وأمتعتهم إلى وطنهم.

الصفحة الرئيسية